ما مدى خطورة المواجهة بين اليونان وتركيا؟

بانوراما 2020/09/11
...

 جوزيف هنكس 

  ترجمة: انيس الصفار 

شيئاً فشيئاً تحولت منطقة شرق البحر المتوسط الى فضاء مزدحم مضى يشتد ازدحاماً، ما بين عبور المهاجرين المحفوف بأشد درجات الخطر من ليبيا الى أوروبا، وسيل السلاح والمرتزقة المتدفق في الاتجاه المعاكس، وانشاء الروس مركزاً بحرياً جديداً في ميناء طرطوس السوري. وعندما ظهرت السفينة الزلزالية التركية محفوفة بحماية السفن الحربية التركية لتباشر عمليات المسح في مياه تدعي اليونان أن لها حقوقاً قانونية فيها دخل على الخلطة عنصر خطير آخر.

منذ انطلاقه في منتصف آب الماضي اسهم مشروع التنقيب التركي، الى جانب دبلوماسية السفن الحربية التي صاحبته، في خلق وضع شديد الالتهاب، جعل وزير الخارجية الالماني “هايكو ماس” يصرح محذراً: “شرارة صغيرة واحدة يمكن ان تحدث كارثة”، حفز هذا الوضع تركيا أن تعلن قرب اجرائها تمارين عسكرية جديدة بالذخيرة الحية قبالة الساحل الشرقي لقبرص في الاسبوع المقبل، في حين تخطط اليونان لإجراء تمارين بحرية مقابلة بمشاركة فرنسا وقبرص وايطاليا، ادى هذا النزاع الى حدوث انقسام بين زعماء الاتحاد الأوروبي حول كيفية التعامل مع تركيا، كما جر اليه دولاً أخرى بعيدة مثل مصر والامارات العربية.
شهد الاسبوع الماضي إعلان اردوغان عزمه على “عدم التنازل عما هو لنا”، على حد تعبيره، كما شهد إعلان اليونان أنها قد مددت المساحات البحرية التابعة لها حول بعض جزرها التي لا علاقة لها بالنزاع الراهن، وعلى اساس ذلك لا يمكننا القول، إلا أن التوترات سائرة نحو التصعيد، وفي ما يلي ما قد علمناه عن أصل المشكلة الآخذة بالتفاعل في البحر المتوسط.
 
أسباب التوتر الحالي
على السطح يلوح النزاع على الطاقة وكأنه هو السبب، فتركيا واليونان لديهما ادعاءات متداخلة بشأن مناطق بحرية غنية بالغاز تقع شرق البحر المتوسط، يتلخص موقف اليونان في أن لكل جزيرة من جزرها، التي تعد بالآلاف، حقا مشروعا في جرفها القاري، وهي تمتلك تخويلاً حصرياً بالتنقيب فيه، وقف الاتحاد الأوروبي وراء اليونان بحزم، وفي شهر تموز الماضي فرض عقوبات على تركيا بسبب قيامها باعمال المسح الزلزالي قبالة الساحل الشمالي لقبرص، كما وجه اليها تحذيرات متكررة من مغبة المضي في عمليات الاستكشاف.
أما تركيا فتدعي ان هذا تفسير جائر للقانون الدولي يبيح التجاوز غير المشروع على مناطق اقتصادية تعود اليها حصراً، خلال الاشهر الاخيرة سعت تركيا واليونان، كل من جانبها، الى تعزيز ادعاءاتها المناطقية من خلال ترسيم مناطقها الاقتصادية البحرية، الأولى مع ليبيا والثانية مع مصر.
من وراء دواعي القلق المناطقية المباشرة تتداعى الى المعترك شكاوى ومظالم تاريخية وستراتيجية عسكرية معاصرة تضم في ما تضم وضع قبرص المتضارب والحروب الناشبة في ليبيا وسوريا وصراع القوى الدائر في المنطقة الى جانب اضمحلال نفوذ الولايات المتحدة.
 
تدهور العلاقات 
التركية اليونانية
يمتد عمر العداء اليوناني التركي الى زمن أبعد بكثير من عهد تأسيس الجمهورية التركية، فهو يترامى وينبسط، حتى يتجاوز دواعي القلق اليومي المعهودة، مثل منشأ البقلاوة، الى خلافات أشد خطورة لها علاقة بفظائع تاريخية، بيد أن أشد النزاعات جدية خلال نصف العقد الماضي يتمحور حول وضع قبرص.
نجم عن الغزو التركي لجزيرة قبرص في العام 1974، الذي جاء اثر انقلاب عسكري بدعم من اليونان، احتلال القوات التركية ثلث الجزيرة الشمالي ونزوح القبارصة اليونانيين من تلك المنطقة. في العام 1984 اعلن سياسي قبرصي من اصل تركي انفصال ما اسمي “جمهورية شمال قبرص التركية” التي لم تعترف بها سوى تركيا، وفي العام 2004 انضمت جمهورية قبرص الى الاتحاد الأوروبي رغم وضعها المنقسم، استمرت التوترات بين اليونان وتركيا بالتأجج وفي العام 1996 اقتربت الدولتان من حافة الحرب بسبب نزاع على جزيرتين صغيرتين في بحر ايجة قريبتين من ساحل تركيا الغربي.
وضع قبرص المعلق هذا مستمر ويطرق في اي نقاش يتعلق بشرق المتوسط، لأن تركيا تعد أي صفقات توقعها قبرص بخصوص استثمار الطاقة عديمة الشرعية ما لم تكن “جمهورية شمال قبرص التركية” طرفاً فيها ايضاً. مقابل ذلك تعد اليونان التنقيبات التركية عن الغاز بالقرب من قبرص غير شرعية.
 
عوامل أخرى
أحد هذه العوامل تدفق المهاجرين من الشرق الأوسط الى اوروبا، فتركيا تستضيف نحو اربعة ملايين مهاجر ولاجئ كجزء من صفقة العام 2016 مع الاتحاد الأوروبي، في شهر شباط نفذ اردوغان لفترة قصيرة ما كان يتوعد به منذ وقت طويل، وهو فتح البوابات والسماح لعشرات الألوف من طالبي اللجوء بالعبور الى اليونان. بالمقابل باء رد أثينا المتشدد، الذي شمل استخدام العنف بحق طالبي اللجوء، بانتقادات وجهتها جماعات حقوق الانسان. في غضون ذلك اتهم الاتحاد الأوروبي تركيا بأنها تستغل المهاجرين كورقة مساومة.
في تموز ازدادت العلاقات تدهوراً حين اعادت اسطنبول تحويل صرح “آيا صوفيا” الى مسجد. ايقظ هذا الاجراء نزاعاً قديماً يمتد عمره قروناً بخصوص احد اشد الأبنية الدينية في العالم اثارة للخلاف، إذ حرك الأمر مشاعر الغضب لدى روسيا واليونان؛ قطبي الديانة المسيحية الأرثوذكسية.
اتهم وزير الخارجية اليوناني “نيكوس ديندايس” اردوغان بطرح ستراتيجية “العثمانية الجديدة” في منطقة شرق المتوسط كجزء من ممارسة اهداف توسعية ضد الجيران والحلفاء. هذا الاتهام كثيراً ما يوجه الى الزعيم التركي الذي يلقبه منتقدوه بـ “سلطان العصر”.
بيد أن اسلوب القوة الذي تنتهجه تركيا في المياه المتنازع عليها يحظى بدعم حزبيها، فقد أعلن الحزب الجمهوري الشعبي، وهو حزب المعارضة الرئيس، تأييده لبرنامج التنقيب في البحر المتوسط، كذلك تحظى محاولات تأمين مصادر للطاقة في منطقة تزداد فيها عزلة تركيا بمرور الأيام دعماً شعبياً، كما يقول
 الخبراء.
 
تورط دول أخرى
القائمة تطول وتزيدها تعقيداً تورطات تركيا والدول الأوروبية في الشرق الأوسط وشمال افريقيا ومناطق أخرى.
في شهر تشرين الثاني من العام الماضي وقعت تركيا اتفاقية بحرية مع الحكومة الليبية، التي تؤيدها الأمم المتحدة تجيز لها توسيع رقعة تنقيباتها في مناطق شرق المتوسط، هذه الاتفاقية، التي لا تعترف بها واشنطن أو الاتحاد الأوروبي، أتاحت لتركيا التدخل عسكرياً في الصراع الأهلي الليبي ضد القائد العسكري خليفة حفتر المدعوم من روسيا، ومثلما حدث في شمال غرب سوريا برزت روسيا وتركيا كوسيطين بين القوى الاخرى على مسرح الصراع الليبي.
بيد ان روسيا ليست وحيدة في دعمها لحفتر في ليبيا، لأن فرنسا والامارات العربية ومصر لها كل على حدة مساعداتها العسكرية او المالية لجيشه الذي يسمي نفسه “الجيش الوطني الليبي”، وهؤلاء كلهم مساهمون في نزاع البحر المتوسط.
في وقت سابق من شهر آب الماضي ارسل الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون”، الذي يصف الحملة التركية في ليبيا بـ”الاجرامية”، طائرتين مقاتلتين من نوع “رافال” وفرقاطة بحرية لفترة وجيزة مساندة لليونان. كان الموقف الذي اتخذته فرنسا واليونان وقبرص ضد تركيا صلباً بالقياس الى النهج التصالحي الذي اختارته دول الاتحاد الأوروبي مثل المانيا واسبانيا وايطاليا.
في غضون ذلك وقعت مصر في شهر آب اتفاقية مع اليونان تتعلق بتطوير المنطقة الاقتصادية البحرية المشتركة، ولكن تركيا وصفتها بأنها باطلة ولاغية، وقد هدد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بالتدخل عسكرياً في ليبيا تصدياً لتركيا، اما الامارات العربية، التي نشرت طائرات تابعة لها من صنع أميركي في ليبيا، فقد ارسلت اربع طائرات من طراز “أف 16” الى جزيرة كريت للمشاركة في التدريبات الى جانب القوات اليونانية.
 
الموقف الروسي
لم يصدر عن روسيا بعد تصريح علني بشأن التوترات اليونانية التركية، بيد أن تخندقها عميق جداً في شرق المتوسط والبحر الأسود معاً، هناك حيث اعلن اردوغان مؤخراً نبأ عثور تركيا على اكبر حقل للغاز على الاطلاق، في العام الماضي حذر اكبر ادميرال بحري أميركي في اوروبا من ان موسكو آخذة بتحويل شرق المتوسط الى واحدة من اشد مناطق العالم عسكرة، وجانب من ذلك سببه انشاؤها عقدة ارتباط بحرية مركزية في ميناء طرطوس السوري، وقد افادت وسائل الاعلام اليونانية مؤخراً بأن البحرية الروسية قد حشدت تسع قطع بحرية بين قبرص وسوريا بينها ثلاث غواصات.
 
الرد الأميركي
من خلال مكالمات هاتفية عبّر الرئيس ترامب لنظيريه اليوناني والتركي عن قلقه وانزعاجه من تصاعد التوترات، حاثاً كلا عضوي حلف الناتو على التقيد بالحوار، رغم هذا وصلت السفينة الحربية الاميركية “هرشل وودي وليامز” مؤخراً الى جزيرة كريت اليونانية، بعد ذلك ترك البيت الابيض لألمانيا مهمة التوسط في 
الازمة.
الأمر وارد ولكنه احتمال بعيد لأن قيام حرب بين عضوين من حلف الناتو في البحر المتوسط سوف يفضي الى كارثة محققة، كما ان الجانبين عبرا بصراحة عن رغبتهما في التفاوض، ولكن كلما ازداد اللعب عند الحافة تزايدت احتمالات التصعيد جراء حادث عرضي، في يوم الاربعاء الماضي قال اردوغان: “نحن ندعو نظراءنا الى التحلي بالفطنة وتجنب الوقوع في اخطاء تودي بهم الى الدمار، من لديه الرغبة في مواجهتنا وتحمل الثمن فأهلا به، اما اذا لم يكن مستعداً لذلك فليتنح جانباً”. 
ثمة قلة من الاصوات المعتدلة، ولكن مع تلاشي الآمال في انضمام تركيا الى الاتحاد الأوروبي تزداد صعوبة الحديث عن محاسن المصالحة بالنسبة لحمائم السياسيين في أنقرة، كما تقول “نيغار غوكسيل” من مجموعة الأزمة الدولية التي مقرها بروكسل. تضيف غوكسيل: “ليست لدى الاتحاد الأوروبي جزرات يقدمها لتركيا كي تغلب موجة المشاعر القومية. في اعتقادي ان المفكرين الستراتيجيين في أنقرة جادون في الدعوة الى التفاوض، ولكنهم يعتقدون أنهم لن يحصلوا على ذلك ما لم يثيروا الزوابع”.