إذا أُريدت لروايةٍ تحديثيّةٌ، شعرية + علامية، يُلزَمُ كاتبها بالاشتغال فيها على: بنية، تقنية، ثيمية، جمالية. لكنْ، لا يمكن لكل نص سردي طويل، كالمعتاد، أن يكون رواية، أيْ يستأهلها تجنيساً، إنْ تَوفّر على هذا الدفع الرباعي فقط. نعم، يجب عليه، وجوبا باتّاً، أن يتّسم بدفع رباعي ذي مسرود: ما يرد من سارد إلى مسرود له، هو القارئ، منتظماً في مجموعة أحداث مقترنة بشخصيات ثم مؤطّرة بأزمنة وأمكنة.
إذاً: للمسرود مكوّنات أربعة، تحديدا، هي: الحدث، الشخصية، الزمن، المكان. فقط أوّلُها، هنا، هو القاسم المشترك الأعظم للمكوّنات الثلاثة الأخرى. إنه “الحدث”، تعيينا، ذو المراحل الثلاث الآتية: العرض = الفرشة، النمو = الحبكة، الربط = العقدة. لذلك فإن “الرواية”، بوصفها نصا سرديا طويلا، لن تكتفي بمرحلة “العرض” وحدها، لأنها ليست (قصة قصيرة جدا)، ولا بمرحلتي “العرض و النمو” معا، لأنها ليست (قصة قصيرة)، بل تجمع مراحل “العرض، النمو، الربط” كلّها، لأنها (رواية)، كي تحقق “الدراما”.
مَن يجمعها “السارد”، متحكّما بها، فثمة سارد خارجي، مطلقيٌّ، يقابله، وظيفيّاً، آخر داخلي، نسبيٌّ، حيث كلاهما صانعان لعلائقية “الحدث”، أحد مكوّنات “المسرود”، من خلال تجاوز “البنيةَ” للجزئيات بالعلائقيات: على كلّ فصل في المتن تعالقٌ مع فصوله الأخرى، على كلّ مقطع في الفصل تعالقٌ مع مقاطعه الأخرى، على كلّ فقرة في المقطع تعالقٌ مع فقراته الأخرى. هذه التعالقات الثلاثة، معاً، ربّما تبدو للسارد الخارجي سهلة، يسيرة، لكنها تغدو لنظيره الداخلي صعبة، عسيرة، على وفْق هذا القانون: لا يجوز للسارد الداخلي، بعكس نظيره الخارجي، أن يعْلم
بالبواطن.
ثمة للكاتب خضير فليح الزيدي روايته: الملك في بجامته، دار الرافدين ـ بيروت، 2018، على سبيل المثال، يمكن بالتمثيل العملي للقانون النظري تناول فقرتين من
مقطعها: عالم الست.
في هذا المقطع، وهو الثاني للباب السابع ((المؤدي))، ثمة ساردان داخليان: أصلي “خالد الشيخ” – فرعي “براق الكوني”.
عن “الست سعاد” التي (كانت سابقاً بعثية من الطراز الأول،) ص138، من جهة أولى، يقول الفرعي للأصلي إنها بعد نيسان 2003 (أحرقت تنورتها الخاكية وشارات الحزب وصورها مع القائد الأسمر وهويات النضال والكراريس دفعة واحدة في التنور. كانت أمها تضحك وتقول: “إلى متى؟ مو كبرتي ما كافي عاد. بالعراق يومية حكومة، يعني شلون بيك؟”). ص139.
هنا جزئية غير علائقية، نعم، لأنّها ذات علْم بباطن، بين أمٍّ وابنتها داخل بيتهما، ليس مقنعاً: ستُفترض علْماً تخمينياً هذه العبارة: (أحرقت تنورتها الخاكية وشارات الحزب وصورها مع القائد الأسمر وهويات النضال والكراريس دفعة واحدة في التنور).. لكنْ ماذا عن نظيرتها اللاحقة بها: (كانت أمها تضحك وتقول: “إلى متى؟ مو كبرتي ما كافي عاد. بالعراق يومية حكومة، يعني شلون
بيك؟”).؟
أما عن “الست سعاد” حيث (علاقتها بالمخرج نورس) ص138، من جهة ثانية، فيقول الفرعي للأصلي إن المخرج (يدخل معها في غرفتها ويضع الدرجات للطلبة بيده وهي تنظر لشعره وفمه وبياض خلقته وشفتيه الورديتين).. ثم ذات مرة (قربت رأسها منه وطبعت قبلة على خده، ليس لها للقبلة ـ كذا ـ أي مبرر، لكنها فعلتها من دون سيطرة على نفسها. حك خده وخرج نورس من الغرفة خجلاً كالطفل من فعلتها. عندما اتصلت به ليلاً عبّرت عن أسفها عما حدث).
ص140.
هنا جزئية علائقية، نعم، لأنّ فيها علْماً بباطن، بين رجل وامرأة داخل غرفتها، سوف يبرَّر لاحقاً بقول الفرعي للأصلي: (واحدة ـ كذا ـ من الأسرار التي كشفها لي نورس، أنه في يومٍ ما دعته إلى وجبة غداء في بيتها،) ص141.. أي أن “نورس”، المخرج، يكشف لـ”براق الكوني” عن أسراره مع “سعاد” ومنها سرُّ الحادث بينهما داخل “غرفتها” في ((معهد الفنون الجميلة)).
فهل كانت الست “سعاد”، الأستاذة في هذا المعهد، قد كشفت جميع أسرارها للمخرج “نورس”، الذي تحبه، بما فيها (كانت أمها تضحك وتقول: “إلى متى؟ مو كبرتي ما كافي عاد. بالعراق يومية حكومة، يعني شلون بيك؟”)، حصراً هنا، بحيث انتقل هذا السر منه إلى السارد الداخلي الفرعي “براق الكوني” محقِّقاً
علائقيته؟!
يُفترض الآن، دون أدنى شك، أنّ ساردا خارجيا، مطلقيّاً، قد كفل التجاوب مع هذا التساؤل. سيظهر متأخِّراً، بحكم بوليفونية فذة، خلال الباب الحادي عشر ((نادي الزواج)). في مقطعه الأول، بعنوان: ياسر عبد الله، ينعت “سعاد بديوي” بالمتصابية ص204. كأنّ نعْته مبدأ، هنا، ذو تفاصيل في المقطع الثاني، بعنوان: نادي الزواج، إذ يسرد عنها: (بعد القبلة القاتلة التي سرقتها سعاد بديوي من فم نورس، أدارت بوصلة السلوك نحو التفكير جدياً بكلام أمها، حتى أدركت معنى “غادرك القطار”).. هكذا، حتما، قد (فهمت معنى إلحاحها المستمر حتى ملّت منها، ولم ينفع عتبها الدائم على ابنتها الخائبة، والتي دخلت برج العنوسة منذ سنين.) ص207. إنّه يُحيل، إذاً، لِما تحدّث به السارد الفرعي “براق الكوني” لنظيره الأصلي “خالد الشيخ”: (كانت أمها تضحك وتقول: “إلى متى؟ مو كبرتي ما كافي عاد. بالعراق يومية حكومة، يعني شلون بيك؟”.) ص139. أي أن هذا القول لا بدّ للست “سعاد”، الـ(واقعة في حب طالبها) حيث (علاقة حب من طرف واحد) ص30، أن تكشفه للمخرج “نورس”.. تماماً، بالتأكيد، مثلما ستكشف لصديقة عمرها “جنان البيرقدار”، ص209، آخر أسرارها معه: (الطالب نورس الذي حدثتك عنه، هرب مني بعد تخرجه، استبدل رقم هاتفه وأدار وجهه عني، كانت علاقته بي علاقة مصلحة
فقط).