ملامح البنية والتقنيات في رواية {أحمر حانة}

ثقافة 2020/09/16
...

د. كريم ناجي
 
تحاول هذه الدراسة بيان أهم ملامح البنية السردية في (رواية أحمر حانة) للروائي العراقي الراحل حميد الربيعي الصادرة من دار صفصافة للنشر في القاهرة سنة 2017. فضلا عن محاولة الكشف عن قسم من مهارات الكاتب التجريبية في تعامله مع التقنيات السردية، وما ينتج عن ذلك من إضافات وتعديلات على السائد المألوف منها.
تتألف الرواية من سبعة وعشرين فصلا معنونة متفاوتة الطول، هذا يعني أن (التجزئة والتشظية) من أهم ملامح البنية في هذه الرواية. وبالمقابل لابد من الإشارة إلى أن الكاتب قد وفر بمهارة عوامل تشد البنية وتعزز تماسكها. وهذا الحرص على الجمع بين ثنائيات ومتضادات يكاد يكون حاضرا في معظم جوانب الرواية. وسوف نلحظ قسما من عوامل التماسك في التأطير والتوالي والتدوير والتكرار وغير ذلك.
عندما اقتربت من نهاية الرواية، واجهني فصل عنوانه (مخرج2) فتوقعت الحاجة الى إعادة فصول البداية الخمسة بعد الانتهاء من قراءة الصفحات القليلة المتبقية. إن هذا المؤثر القرائي واستجابتي له يمكن أن يعد ملمحا آخر من ملامح البنية السردية للرواية، إذ يمكن أن يعد نوعا من (التأطير المُعدّل). لا أريد القول بأنها رواية إطارية تقليدية، ولكنها لا تخلو من تأطير. تمثل هذه الفصول السبعة خلاصة الحكاية وتمثل الإطار أيضا، ويبقى عشرون فصلا تتناول تفاصيل وحكايات مختلفة لا تخلو من ملامح (التوالي). ويتضمن هذا الوصف للرواية ملمحا آخر من ملامح بنيتها وهو (التدوير) لأن الفصل الأخير يعيدنا إلى المداخل في بداية الرواية. وفضلا عن الاستنتاج يمكن تقديم دليل نصي، إذ إن السارد يصف عمل ابن الأثير في جمع مادة كتابه بالتدوير ويشبهه بالمدينة المدورة (لقد تصادمت بتلك اللحظة آلاف التواريخ، مولدة شرارة قلما يحدث مثلها في مسرى الأحداث، على إثرها قرر ابن الأثير أن مشواره السابق في تتبع مجرى الفرهود كان مثل المدينة المدورة، يبدأ في نقطة ثم يعود إليها ثانية، لقد أدرك عقب اللقاء شيئاً في الخفاء يجري ويحيل الحدث إلى أسطر في كتاب). (ص191) وهذه الرواية (مدورة) تشبه كتاب ابن الأثير الذي يتناول الأحداث نفسها.
 
البنية السردية
نلمس ملمحا آخر للبنية السردية، ربما يكون أكثر جمالية، ذلك ما نجده في (الإيهام الذكي) الذي يمارسه السارد عندما ينزاح عن مقصده وينجح في تمرير حكاية ثانية أكثر أهمية من حكايته الأولى، التي يتظاهر بالانهماك بحكي تفاصيلها. (الحكاية الأولى) تظهر في تلك الشخصيات المتخيلة والتاريخية وسعيهم لتحقيق مآرب تستحوذ على اهتمامهم، بكل ما فيها من غرائبية وقفزات زمنية وتحولات عجيبة، تلك الأحلام والهموم هي التي تحرك الشخصيات وتصنع الأحداث ويتم عبور الأزمنة والأماكن من اجل تحقيقها، لذلك فإنها هي الحكاية الرئيسة كما يبدو في الظاهر. ولكن تلك الشخصيات الفاعلة التي تؤثر وتتأثر بالأحداث، ولها أسماء وكيانات فردية، عند التدقيق في حقيقتها نجدها غير منتمية إلى المكان والزمان. بينما لا يظهر أهل بغداد إلا عبر إشارات عامة جماعية. ولذلك فإن (الحكاية الثانية) التي يجري تمريرها بين الأحداث والتفاصيل أو تلوح أحيانا في الخلفية، تتمثل في حكاية المدينة التي تواجه تحولا مصيريا خطيرا، وهي أيضا حكاية أزمات العراق وجذورها التاريخية وأسبابها الخارجية والداخلية. ويمكن أن نتلمس أدلة نصية تؤيد هذا المذهب بثها الكاتب بذكاء، فضلا عما يُفهم من مجمل الرواية. من تلك العلامات ما كشفه السارد عن ابن الأثير وخطته التي أعدها لكتابه الجديد عن حكاية بغداد وناسها البسطاء (عند تخطيطه للكتاب سيجعل ظاهر البنية جولة في المدينة وباطنها ثيمة السلب، سيضع الاستهلال تحت عنوان مدخل والمتن سيكون عما أعاد كتابته عن اللقاء). (ص187) 
 
لعبة السرد
التقنيات فيبدو واضحا تعدد الرواة وتباين مواقعهم، تروى معظم الفصول بصوت الشخصية الرئيسة فيها، وأغلبها بصوت الفتى، وبعضها بصوت ابن الأثير والعرجاء وأخت الفتى والراوي العليم.أما السارد صاحب الصياغة فهو الأخ دانيال الرابع نقلا عن هذيان أخيه الذي جمع حكاياته من مصادر عدة منها ابن الأثير ونبوءة يوحنا وغيرها. هذا يعني أن الحكاية مرت بقنوات عدة قبل صياغتها النهائية. وبناءً على ذلك يمكن القول؛ إن لعبة السرد غير الموثوق حاضرة بقوة، يعترف بذلك السارد نفسه ومن ينقل عنه في مواضع عدة.
ويمكن أن نلحظ توظيفا مُعدلاً غير تقليدي عن تقنية تعدد الأصوات، في الفقرات والمشاهد التي تتم إعادتها بصوت إحدى الشخصيات بعد أن ذكرتها سابقا شخصية أخرى مع إضافة معلومات جديدة. وكان من فوائد هذا التكرار الربط بين أجزاء الرواية وإضفاء نوع من المصداقية عليها، وإعادة تفسير ما سبق.
ونجد تقنيات أخرى مختلفة لا تخلو من تعديل موفق وتجريب جميل، فضلا عن خصوصية اللغة ومناسبتها للنص. وهذا يبين الجهد الكبير والثقافة والوعي والخيال وغير ذلك مما يقف خلف إبداع هذا المنجز المدهش.