هذا موضوع يستدعي التأمل، لا التأمل في الأنا في دار السينما أمام فيلم ولكن التأمل في الشخصيات التي تبدو بلحم ودم وهي ليست كذلك. ودور الممثل، تمثيله لغيره، أو انتحال شخصية بعيدة عن التاريخ، أو من رواية. هذه ليست تلك، وتلك أصلاً غير حقيقية، أي نحن في دور ثان من الافتراض أو التزييف.الفيلم لا تكلفك مشاهدته جهداً كبيراً مثل الكتابة أو القراءة. هنا الكلام والشخصية واضحان امامك وليس عليك إلا المتابعة. أظن أننا ابتدعنا ما يعوضنا. ابتدعنا شخصيات حملناها اخطاءنا أو منحناها قوة تحقيق ما عجزنا أو نعجز عنه. أو ابتدعنا، وهنا الخطورة، ما يعوّدنا على الزيف وأُلفة ما لا نريد.
المسافة الفاصلة
ليست حركات الشخوص ولا إيماءاتهم وطبيعة الكلام في الفرح والغضب والحيرة، هي دائماً لأولئك الذين أحضرناهم من التاريخ أو من الرواية ولا لأولئك الذين ابتدعهم خيالنا، إذا ما كنا محترفي حرفتهم. عدم التشابه هذا، هو بقايا الغربة غربة الشخصية عمن تمثلها. السؤال: هل فكرنا بالمسافة الفاصلة بين الاثنين؟ هل هي مساحة صغيرة متروكة لتفكيرنا لتأمل هذا "المصنوع" وذلك "المخلوق" الذي اختفى؟ هذا السؤال يثير سؤالاً آخر: وماذا عن الممثل الذي يتماهى ودوره، ويتحد بتلك الشخصية بكليته فينسى نفسه الأولى أو هي تغيب عنه؟ أقول هذه قضية معقدة تحتاج إلى عون لنجد فهماً.
كيف تذوب صفات إنسان حي بلحم وعظم بصفات إنسان مُتَخيَّل أو وهمي أو شبيه؟ هل نأسى لهذا الإنسان أم نصيح من اعجاب؟ ألسنا أمام دراما إنسانية؟ ماذا نفعل لنبعد هذا الذوبان أو هذا التماهي، غير أن نرى تمثيلاً سيئاً، نرى تنافراً بين جسد الممثل ودوره وبين شخصية الممثل وذلك الافتراضي الذي يمثله؟ وفي هذه الحالة، ماذا نقول للفن؟
استيقاظ الرغبة
ما يريحني في السينما، هو الدور العظيم للفوتوغراف فيها. هنا يشترك الأدب أو الرواية تخصيصاً والتصوير في عمل، نقول عنه عملاً مجيداً، ذلك هو منع الزمن من أن يجرف ما نراه إلى الأبد. السينما توقفه وتحتفظ به لنا، تحتفظ بحضور الناس والأجواء والأمكنة بتفاصيلها: شوارع المدن، ساحات العواصم، المشاهد الطبيعية والفضاءات قبل أن تبلغها البنايات الجديدة والمخازن والمؤسسات والأسواق.. كانت مثيرة رؤية الأزقة القديمة في المدن الهندية والبدايات في أثينا وبغداد قبل مئة عام وعالم الطبيعية الايرلندية الذي غاب أكثره إلا في السينما والكتب، وهنا تستيقظ الرغبة في رؤية ما كان، بتعبير آخر تستيقظ الرغبة في رؤية ما مات أمامنا حياً! لعلماء النفس الآن أن يتدخلوا! مهما كانت التفاسير، يظل ذلك العمل الفني الجليل انتصارا على الزمن وادخارا الثمين من المقتنيات لإنسان اليوم والمستقبل- بعد أن ابتعدنا عن أولئك زمناً وتقدمنا مواسم وناسا وقرى وأساليب عيش وأحوال مجتمعية .. ولا نريد أن ننسى كل شيء كان!
مقاعد متراصة
أيضاً، ما يشغلني في السينما هو تلك القدرة على لم الناس في مكان واحد، في قاعة واحدة، على مقاعد متراصة وجعلهم ينظرون باتجاه واحد ويتابعون شيئاً واحداً! ما هو الرأي في هذا؟ هل هو حسن فنباركه؟ أم هو عملية تعويد على مسخ الفردية، التفرد، الاختلاف، السواسية القطيعية هنا لا الرفعة واحترام الجوار؟ لا يد من رأي. ليست كل الأمور البسيطة تؤخذ ((على النية)) وكأنها حال طبيعي فليس هناك من صنع ومن كرس جهده ومهاراته ليبتدع ما يمكن أن يفيد في أكثر من اتجاه. أظن السينما استُغِلّتْ أيضاً! لا أخفيكم أني كنت يوماً أتابع فيلم Quartet رباعية – عن رواية جين ريز يعرض في دار سينما، في باريس.
أنا قرأت روايات وقصص جين ريز. وأعرف شيئاً عن حياتها وأعرف عم تتحدث في روايتها هذه. لكني أردت أن أراها فيلماً، وكان فيلماً بالأسود والأبيض. رأيت نفسي قبل ما يقارب المئة سنة. وفي أزقة ضيقة ومصابيح خافتة الإضاءة وبيوت كأنها خرجت من حرب. رأيت بعضاً من تلك السنوات وتابعت شخصيات ممتحنة في زمانها.. لكن أهو حسن أيضاً أن تسحبني صنعة فنية من زمني وعالمي وحياتي اليوم، لأغيب ساعات في الماضي، وفي أمكنة لم تعد موجودة وبين ناس ليسوا ناسنا؟ ماذا نسمي هذا الغياب، كيف نفهمه ونقيمه، أهو فرصة هروب من عالمنا إلى عالم كان سيئا؟ كم سوءُ عالمنا
إذاً؟