الزهور السامة.. تجمع البلاء والشفاء

بانوراما 2020/09/21
...

  ليغايا ميشان
  ترجمة: ليندا أدور
منذ قديم الزمان وحتى يومنا هذا، برهنت الأزهار انها هي ذاتها التي قد تسبب البلاء، وقد تجلب الشفاء أيضاً، تبدو وقد مالت بوجهها الى الأسفل مبتعدة بكل فخر عن الشمس، انها أزهار الكولونيا، نوعاً و»بوق الملاك»، لغوياً، ببراعمها الممدودة ونهاياتها المفتوحة كأفواه صارخة. تحملها أشجار في أميركا الجنوبية، يفوح عطر زهرة الكولونيا ليلا كرائحة الليمون المخمر، الذي يقال بأنه يحفز الأحلام المزعجة والكوابيسبل أكثر من ذلك عندما يتم سحق أجزاء من النبتة، ينتج السكوبولامين الذي يعرف بـ»نفس الشيطان»
وهو مركب شبه قلوي ذو تأثير نفسي يكثر استعماله من قبل المجرمين، من خلال مزجه مع الشراب أو ذره في الوجه، لسلب إرادة الشخص، ويشار الى أنه يحوّل الضحايا الى خدم مطيعين، يستفيقون منه بعد ساعات، ليجدوا أنفسهم وقد جُردوا من كل مقتنياتهم، ولا يسعهم تذكر ما الذي حدث.
 
الملك المجنون
كلما ابتعدنا عن العالم الطبيعي، تناسينا أكثر ان لتلك النباتات أسناناً ومخالب، فالذي غالبا ما نتعامل معه للزينة فحسب قد يمتلك قوة وفعلا بصرف النظر عن رغباتنا، تقول إيميلي تومبسون، مصممة الزهور في نيويورك إن: «النبتة الرقيقة والثابتة غير المتحركة عادة ما ينظر لها كمجرد علف للماشية، لكنها لديها قوتها وأهدافها». وقد أدرك القدماء هذه الحقيقة، ومن بينهم الحاكم في القرن الثاني قبل الميلاد أتالوس الثالث، ملك بيرغاموم (مايعرف اليوم بمدينة بيرغاما التركية)، الذي زرع في حديقة قصره نباتات «الهينبان» أو «الهيوسياموس» وهي أزهار على هيئة جرس أصفر وداخلها ارجواني، اذ تسبب الهلوسة واضطراب عمل القلب، كما زرع «الخربق الرقيق»، الذي يمكنه اختراق الجلد وليّ الحشا، وهناك الرذاذ الرقيق المنبعث من نبات «الشوكران» السام، وخدعة من نبات «دانتيل الملكة آن» الذي يمكن أن يؤدي الى توقف الجهاز العصبي المركزي بالكامل. اختبر أتالوس الذي عرف عنه إصابته بجنون العظمة، وعرف بـ «الملك المجنون»، مستخلصات هذه النباتات على مدانين كتمرين على كيفية التخلص من خصومه السياسيين.
لكن هذه السموم كانت في الوقت ذاته بلاسم، فتاريخيا، استخدمت كدواء، اذ ان العلة والعافية تأتيان من المصدر نفسه، كما هو الحال في إضعاف الفيروس للحصول على اللقاح. فقد وصف الخربق في الاغريق القديمة والعصور الوسطى، على حد سواء، لتأثيره المليّن للأمعاء، لتخليص الجسم من سموم «الصفراء» السوداء المتراكمة، وهو السبب المتخيّل للاكتئاب، أما الهينبان فكان من المفارقة أن يستخدم كمهدئ بجرعات أقل، إذ توجد نظريات استخدامه كوقود للمحاربين الاسكندنافيين خلال القرن التاسع الى الثاني عشر، وكان يعتقد بأنهم يتناولونه؛ كالشاي قبل الدخول في المعارك، ليقوموا بعدها بتمزيق دروعهم، ويتعرون ويعوون ويقدمون على ذبح أي شخص في طريقهم وهم في نشوة من الغضب. 
 
الخوف وسيلة للإغراء
ضمت الحدائق النباتية الأولى التي أنشئت في مدن بيزا وبادوا وفلورنسا الايطالية في القرن السادس عشر، الكثير من النباتات السامة التي استخدمها الصيادلة كأدوات للمحافظة على الحياة، أو ربما سراً في الحث على الاستعداد للموت. اليوم نتخيل أنفسنا وقد أصبحنا أقل اعتمادا على هذه النباتات، لكننا في حقيقة الأمر أقل وعيا بالدين الذي ندين لها به، اذ تصل نسبة المستحضرات الصيدلانية المشتقة من المصادر النباتية لنحو 25 بالمئة، ومنها «طقسوس المحيط الهادئ»، وهي شجرة جميع أجزائها سامة من ثمارها حتى لحائها، والتي يكثر استخدام قلويداتها في العلاج الكيميائي. 
في يومنا هذا، حدائق السموم صارت أكثر ترويعا، ففي حديقة ألنويك، الواقعة شمال شرق انكلترا، تمت زراعة مساحة من الأرض، عن عمد، بنبتة البلادونا، حيث تتلألأ ثمار توتها الأسود، التي تسبب الهذيان، وهناك شجرة الأبنوس الكاذب بعناقيد متدلية من أزهارها الصفراء الذهبية، اذ يمكن أن تسبب بذورها الخمول والنعاس العميقين, وحتى الغيبوبة، وهناك نبتة زيت الخروع التي تمتلئ ثمارها الشائكة المائلة للحمرة بمادة الريسين، وهي مادة سمية قاتلة، يكفي مقدار مليغرام واحد منها لقتل شخص، كما حدث مع جورجي ماركوف، البلغاري المنشق، في العام 1978، عندما تم حقنه بها عن طريق حافة مظلة كانت موضوعة هناك. وفي ألنويك هناك مصطبة قرب نبات الهينبان، بانتظار من يغشى عليهم من الزوار، حيث الخوف كوسيلة للإغراء، والمتجسد ببوابات من الحديد الأسود مثبت عليها علامات تحذيرية من الخطر رسمت عليها «جمجمة وعظمتان متقاطعتان».
 
الرضوخ للترويع
ربما تكمن جاذبية النباتات السامة في كيفية تقويضها لوجهة نظرنا المتمحورة حول الانسان عن العالم، حيث يسود الاعتقاد بأننا نسيطر على كل شيء، لكن هذه النباتات الناعمة والرقيقة لها القوة والقدرة على تحويلنا، بل وحتى التحكم بنا. تقول سيلكا ريتسون توماس، القيّمة الفنية والمديرة الإبداعية لاستوديو زهرة توك توك في لندن، بأن «بوق الملاك»، الذي يعود موطنه الأصلي الى المناطق المدارية، كان مرغوبا كثيرا في انكلترا اثناء العصر الفيكتوري، حيث كانت سيدات الطبقة المترفة اللواتي زرعنه داخل مستنبتات زجاجية، يلتقطن رحيقه مباشرة الى فناجين الشاي خاصتهن للحصول على جو من الإثارة والتمرد، جزء من تلك الإثارة كان قرب الجمال من الخطر، والضعف من القوة، وبنفس الطريقة، فإن ريتسون توماس تغطي أرض حديقتها في كوتسوولدز بأزهار الخشخاش ذات اللون الأحمر الدموي، التي تصفها بأنها: «مرنة ومتقلبة، تتفاخر برؤوسها التي لا تعد ولا تحصى».
بالنسبة لبائعي الزهور، فإن الخطر ليس تعبيرا مجازيا، اذ تستذكر تومبسون، عندما أصيب أحد زملائها بالعمى المؤقت اثناء تعامله مع نبتة زيت الخروع، بالرغم من ذلك، تجد نفسها منجذبة لتلك النبتة المشؤومة، اذ تقول: «أحب الرضوخ للترويع»، لكنها، تشير الى خطر أكبر وهو تعرض النباتات الى المبيدات الحشرية الموجودة في كل مكان التي تحملها الأزهار المزروعة تجاريا، والتي يسهل امتصاصها عن طريق الجلد، لذا صار لزاما على بائعي الزهور اليوم الحصول على معدات الوقاية الشخصية الكاملة من قفازات ومعاطف مختبر، تقول: «لذلك أفضل كثيرا التعرض لتهديد الطبيعة».