الأمهات.. آلهة القلق

اسرة ومجتمع 2020/09/22
...

  نهى الصراف
 
في الماضي، كانت أقصى أماني الأمهات الحصول على لحظة اطمئنان واحدة أو خبر مقتضب عن ابن غائب في الحرب أو ابنة تعيش في مدينة بعيدة، الرسائل البريديَّة والمكالمات التليفونية البليدة لم تكن تفي بالغرض بل إنها في أحيانٍ كثيرة كانت تعمق جرح الفراق؛ عندما تعجز كلمات الرسالة عن وصف المشاعر أو تخطئ أذن الأم ترجمة نبرة صوت ولدها في الهاتف، فيتضاعف القلق وتزداد الشكوك والأمهات كما نعرف آلهة للقلق، حيث ينمو حب الأبناء جنباً إلى جنب وفي سريرٍ واحد مع الخوف من فقدانهم.
تبرعت التقنية الحديثة بملء هذا الفراغ وصارت تتسلى بتقصير المسافات بين الناس وتقريب البعيد، حتى أصبح البشر مواطنين متشابهين في قرية عالميَّة كبيرة بلا حدود افتراضيَّة؛ أصبح بإمكان الأمهات القلقات اليوم التحدث إلى أبنائهن في الهواتف المتاحة بالصورة والصوت والفيديو والحوار المباشر، لم تعد كلمات السلام التقليديَّة والسؤال عن الصحة والأحوال هي لغة الحوار المفضلة، فالاتصال اليومي المتواصل شتت جسد الفراق وجعل أوصاله موزعة على مدار اليوم بعدد المكالمات الذكيَّة، وها هو الولد يسأل أمه التي تبعد عنه مسافة قارة عن كيفيَّة إعداد طبقه المفضل، ثم تبقى لترافقه على الهاتف في بث فيديوي مباشر لتطمئن على مقادير الطبخة ودرجة النضوج وطريقة التقديم، بل وحتى عدد ابتسامات ولدها بعد أنْ يعدَّ المائدة ويتناول طعامه.
ومثل كل شيء يزيد عن حدوده التقليديَّة، فإنَّ التقنية وهواتفها الذكيَّة قد تجاوزت حدودها كثيراً حتى لم تعد الحياة كما كانت عليه في السابق، فالهاتف الذي قرَّبَ البعيد واختصر مسافات الفراق، حفر عميقاً في أساسات العلاقة بين أفراد الأسرة الواحدة الذين يسكنون حدوداً مشتركة ويتناولون الطعام على مائدة واحدة في منزلٍ واحد؛ ابتعد الأبناء عن أمهاتهم بفعل جاذبيَّة هذا الجهاز العجيب وأصبحت غرفهم الشخصية دولاً افتراضيَّة بحدود مرسومة باللامبالاة، بعد أنْ صنعوا لأنفسهم عوالم أخرى وعاشوا في داخلها كأسماك خرجت من محيط لا نهائي إلى حوض زينة صغير مهمل على رف في غرفة المعيشة.
لم يعد الاجتماع على مائدة الطعام مناسبة لتبادل الحديث بل معزوفة مزعجة لأدوات المائدة وهي تتنقل بين أيدي أفراد الأسرة لتقطيع الطعام وتناوله، بينما ينشغل جزءٌ مهمٌ من تفكيرهم بالعالم الافتراضي الذي سحبوه عنوة من حدود غرفهم ووضعوه على المائدة لحين اكتمال اجتماع الطعام. لا حاجة للحديث ولا للابتسامات ولا حتى للنصائح، فكل ما قد يحتاجه المرء متوافرٌ في محيط المعلومات التي تضخها آلة الهاتف الصماء، تخلصت الأم من بعض أعباء المسؤوليَّة لتحصل على وقتٍ إضافي تستثمره هي أيضاً في العيش داخل قوقعتها من دون أنْ تشعر بغيابٍ أو فراغ، مع ذلك، فإنَّ القلق قلما يغادرها على الابن الذي يسكن في غرفة مجاورة وينصت لكل شيء في هذا العالم إلا دقات قلبها الخائف!