بنك الجلد.. عندما تتحول توقعات الوفاة إلى حالات حياة

ريبورتاج 2020/09/27
...

  علي غني
لم يكن (ن) إلا شاباً في مقتبل العمر، هز صراخه اركان البيت، راكضا في ممراته، باحثا عمن يخلصه من النار التي امتدت لأغلب جسده، يالهول الحريق؟!، حينما يأكل جسد الانسان، لكن لطف الله وسرعة الاجراءات للوصول الى المستشفى، كانت لها نتائج مدهشة، أما كيف فتلك قصة مدهشة، واكبتها معه عن قرب، وهو متعرض لحريق نتيجة انسكاب النفط على جسده، اثناء عمل الشواء.
أسرع إجراء
كان (ن) يعمل الشواء ليلا مع اخوانه، وبلحظة طيش انسكب النفط على ملابسه، وعند ملامسته النار، شب الحريق بأغلب جسده، فسرعان ما تعاون الأهل و الجيران، وتم نقله بسرعة قياسية، وما هي الابضع دقائق وهو في المستشفى، فتسلمته خلية النحل من الجيش الابيض المتواجدين في الساعة الواحدة ليلا، فسهروا على تقديم كلما ينقذه من الموت، فكان غسل الحرق وتعقيمه ولفه بالضماد والتخدير، لينقل الى المركز التخصصي في الحروق، فكانت البداية من مستشفى اليرموك.
 
الأيام الأولى
لم يقصر الاطباء الاختصاص ومنهم الدكتور احمد اسامة، والدكتور عمار ولا الممرضات والممرضون من العلاج المتواصل ليلا ونهارا(الممرضة ام عذراء. ونبأ وصبا وحسين، وغيرهما)، فكانت الايام المحرجة وهمومها تنقشع يوما بعد يوم بالعمل الكبير والبطولي لهؤلاء الذين بذلوا كل مايستيعون من جهود، وبذلك نضجت ثمرة الحياة، وذبلت ثمرة الموت، بعد أنْ كان يصرخ يومياً حين يغسلون جسده في عملية متعبة جدا لحروق جسد تجاوز نسبة الستين بالمئة وربما أكثر، وبعد أكثر من 20 يوماً تجاوز الحالة الحرجة، لتتحول الحروق الى جروح وهذه المعلومة لا يعرفها إلا أهل الاختصاص.
 
بنك الجلد
من مستشفى اليرموك للحروق الى مستشفى مدينة الطب للحروق التخصصي، كنا في ضيافة أكثر من طبيب متخصص بالحروق، فكان مدير مشتشفى الحروق التخصصي في مدينة الطب الاستاذ الدكتور توفيق وليد توفيق، مستشار الجراحة التقويمية، والمقرر العلمي للبورد العربي للجراحات التقويمية والتجميلية، والدكتور غيث السعداوي الاختصاص في المستشفى نفسه، والأول على دفعته في البورد العراقي من اوائل المتحدثين، جاء تساؤلي الاول للدكتور غيث، بعد أن شرحت له حالة المريض، وعمليات الغسل وحك الجلد (القشط) المؤلمة، فهل يوجد بديل لها، فأجابني:»إن العديد من الدول المتقدمة لديها بنوك للجلد تستخدمها في الحالات الخطرة، ونحن في العراق نحتاج إلى مثل هذا البنك، لأن بوساطته يمكن معالجة الحروق العالية بعد قشطها جراحياً، إذ إن بإمكاننا أن نحول الوفيات المحققة إلى حالات نجاح باستخدام هذا البنك».
وأضاف قائلاً: «أذا أردنا أن ينجح اقتراحنا بانشاء بنك للجلد في العراق، فنحن نحتاج إلى تشريعات قانونية ودينية، إلى جانب تخصيص أموال للشروع في هذا المشروع المهم، وقد طالبنا الوزارة أكثر من مرة بتأسيس بنك الجلد، ولأن تأسيسه بالتأكيد سيغير من نتائج الحروق بنحو اعجازي».
يتابع الدكتور غيث علاء حديثه «يجب عزل مريض الحروق عن الآخرين، وهو ما يتساهل به أهل المريض أو المرافق له، إذ إن مريض الحروق قد نزع عنه الدرع الحصين، أي سياجه الخارجي، لذا فإنه يتعرض للالتهابات لأدنى تغيير، وعلى مرافقه العناية به وحفظه من البكتيريا المتوطنة حتى في المستشفيات، لأن مريضاً واحداً يمكن أن ينقل العدوى للجميع».
 
نقص الملاكات التمريضيَّة
ولفت السعداوي إلى «مشكلة أساسية في مستشفيات الحروق، ألا وهي قلّة الملاك التمريضي، فنحن نحتاج إلى ما يعادل ممرضَين لكل مريض خلال ثماني ساعات، في العمل لمواكبة احتياجات المريض ومتابعة فعالياته الحيوية، وبالتالي فإن ذلك يسبب إرهاقاً واستنزافاً للملاكات التمريضية».
وبين «انه يعود نجاح أصعب عمليات الحروق التي أجريتها، إلى التوفيق من الله والاطلاع المستمر، وفريق العمل من الاختصاصيين، وأطباء التخدير، وأطباء العناية المركزة، وطبيب التغذية، والأطباء النفسانيين، والملاكات التمريضية في معالجة أصعب حالات الحروق».
بينما حذر السعداوي من كل سيدة أو رجل في كل بيت، أوفي أي مكان، أن يتفحصوا طباخ الغاز، وخزانات النفط، ومكان تشغيل السخّان، كما عليهم أن يراقبوا حركة الأطفال في البيت في الشتاء، لضمان عدم دخولهم في الحمام واستعمال الماء الساخن لوحدهم، إلى جانب مراقبة نقاط الكهرباء في البيت، وكذلك الأولاد والبنات الذين يهددون أسرهم بالانتحار، تلك الأمور من البديهيات، التي يجب ألا يغفل عنها أي مواطن مطلقاً، لأنها تمثل بداية الكارثة».
 
لكل حالة تعامل خاص
مدير مستشفى الحروق التخصصي في مدينة الطب الأستاذ الدكتور توفيق وليد توفيق، مستشار الجراحة التجميلية، بعد سؤالي عن عدد الحالات التي تصل المركز، وانواع الحروق، وكيفية التعامل مع كل حالة، أجابني «نحن المركز الوحيد في العراق الذي يستقبل الحالات الشديدة، وبواقع أربع حالات يومياً».
وأضاف «تقسم الحروق إلى درجات، فالأولى عادة ما تكون حروق الشمس في المسابح في الصيف، وهي لاتحتاج إلى تداخل طبي وتشفى خلال خمسة أيام أو أسبوع ولا تترك آثاراً، أما الحروق من الدرجة الثانية فهي السطحية (السلقية)، وهذه الحروق تحدث بسبب السوائل الحارة، كالماء المغالي، والشاي، وراديتر السيارات، وفي حال دخولها العمق تصبح من الدرجة الثالثة، وهي تعتمد على درجة حرارة السائل وكثافته وفترة التعرض له».
واشار الدكتور توفيق الى أن» المرضى من كبار السن والأطفال غالباً ما يحتاجون لنقلهم إلى المستشفى أو العيادة الخارجية، حتى وإن كانت نسب الحروق بسيطة التي تشكل نحو 20 بالمئة من المساحة السطحية، كذلك الحروق الناتجة عن الكهرباء والمواد الكيميائية، إلى جانب الحروق التي تؤثر في المناطق الحساسة كالوجه أو اليدين أو المفاصل».
 
الإهمال وعدم الالتزام
اما عن كيفية التعامل مع المريض الذي يتعرض لحريق بالبنزين أو النفط في البيت أو في مكان العمل؟ قال للدكتور توفيق:»يجب إبعاد المصاب عن النار، وأطفاؤها باستخدام الماء، وتبريد المنطقة، وإزالة الملابس عنه، وتغطيته بشرشف قبل إدخاله إلى المستشفى، ونقله إلى أقرب مستشفى أو مركز حروق متخصص، وتجنب نقله إلى عيادات العشّابين، لأن كل حالة تختلف عن الأخرى في الحروق، فهناك الحروق السطحية التي يمكن شفاؤها، لكن الحروق الكبيرة تحتاج إلى أطباء مختصين ومستشفى متخصص».
 
ظاهرة حرق النفس!
أعود للدكتور غيث علاء السعداوي، الذي نوَّه إلى أن «أغلب حالات الحروق التي ترد إلى المستشفى سببها الإهمال، وعدم الالتزام بشروط السلامة، ومنها حوادث النفط، لاسيما عند ملء المدافئ النفطية، أو استخدام البنزين بدل النفط، وعدم الرقابة على الأطفال عند فتح الماء في الحمّامات».
وكشف السعداوي عن ظاهرة جديدة في المجتمع العراقي، وهي ظاهرة حرق النفس، إذ تجاوزت هذه الحالات الـ 90 %، لاسيما لدى السيدات، والتي غالباً ماتعزى إلى المشكلات الأسرية، والغريب في مسائل الحروق أن صاحب المشكلة يبدأ بترهيب الأهل، ثم يخرج الموضوع عن السيطرة وينتهي بالوفاة.
 
الحروق المعقدة
يواصل الدكتور السعداوي حديثه: «إذا تجاوزت الحروق نسبة الخمسين بالمئة تصبح معقدة، ومعدلات الوفيات تكون عالية، فتدخل مشكلات التسمم بالدم والتهابات الرئة والنقص المناعي ووظائف الكلية، عند ذلك فإن عملية التأهيل تحتاج إلى عمليات».
 
العراق في المقدمة
«يمتلك العراق أطباء لديهم إمكانيات فنية عالية وتدريب موازٍ للمعايير العالمية»، هذا ما أخبرنا به مستشار الجراحة التجميلية والتقويمية الدكتورتوفيق وليد توفيق ويضيف «لكننا مع الأسف نعاني من مشكلات انعدام الثقة المتبادلة بين الطبيب والمريض، ما يؤدي إلى عزوف العديد من الأطباء عن إجراء العمليات التي فيها خطورة، وتحتاج إلى تداخلات جراحية فيها بعض الإشكالات، وفيها نسب نجاح 50 % عالمياً، ما يؤدي الى العزوف عن إجراء العمليات المعقدة والتطور في هذا المجال بسبب الضغوطات المجتمعية».
 
دور المرافق
رئيس ممرضين أقدم فاضل علوان حمد في مستشفى الحروق التخصصي في مدينة الطب يقول: « إن التزام مريض الحروق بتوجيهات الطبيب والملاك التمريضي، يسهم بتسريع العلاج، كما أن التزام المرافق بأمور النظافة يسهم في حمايته من التلوث، لأن مناعة المريض ضعيفة جداً، وأن أي التهاب يقضي على حياة المريض»، وأيده الممرضان الفنيان علي زكريا سليم ومحمد صالح خضير اللذان أضافا: «على مريض الحروق أن يقوي مناعته والالتزام بالعلاج والوقاية الصحية، وننصح مريض الحروق بتناول الأغذية البروتينية، وعدم تعرضه إلى أشعة الشمس وهو مدهون بالدهون الطبيَّة».
 
قوانين مهمَّة
 حملت المعلومة التي ذكرها الاخ الدكتور السعداوي الى المتخصصين من اهل القانون بشأن (بنك الجلد)، فتصدى لها الدكتور أحمد حاتم جبار، عميد كلية القانون- جامعة الفراهيدي، ليجيبنا عن الخطوات التي تحتاجها المؤسسة الصحية لإقرار قانون (إنشاء بنك الجلد في العراق): «عندما ننظر إلى التشريعات القانونية الجديدة التي تخص وزارة الصحة العراقية، نجدها متأخرة جداً عما هي عليه في بقية دول العالم، ولكي تواكب النصوص القانونية العراقية بقية دول العالم، يجب أن يعمل المشرِّع العراقي على صياغة قوانين جديدة، تتعلق بالمؤسسة الصحية العراقية على شرط عدم تعارضها مع الشريعة الإسلامية والأعراف الاجتماعية الأخرى، ومن الأمور الطبية التي لم يتطرق لها القانون العراقي ولم ينظمها بعد، نذكر منها قوانين التبرع بأعضاء وأنسجة الجسم، والتبرع بالأجنة وتفرعاته، وبنك الجلد، وغيرها من الأمور التي تتعلق بوزارة الصحة، والتي تعتبر مهمة في عصرنا الحالي، إذ إن أغلب هذه المواضيع تطرقت لها الشريعة الإسلامية بالتفصيل، وسبقت النصوص القانوية بذلك، وبالتالي علينا تنظيم هذه الأمور بنصوص تشريعية من خلال تشريع قوانين مقترحة من السلطة التشريعية، بعد أن تقوم وزارة الصحة بتقديم تقرير إلى السلطة التشريعية، تبين فيه التفاصيل وأهمية القوانين المراد تشريعها، وبعد ذلك تأخذ الإجراءات الشكلية في تقديم مسوَّدة قانون جديد بحسب المادة (60) من الدستور العراقي النافذ لسنة 2005».