ماكرون يريد إعادة فرنسا الى الشرق الأوسط
بانوراما
2020/09/30
+A
-A
ستيفن كوك
ترجمة : انيس الصفار
يحاول الفرنسيون العودة الى الشرق الأوسط، او هذا هو الظاهر على الأقل. فرغم كل الحديث الدائر هذه الايام عن جهود روسيا والصين لملء الفراغ الذي يعتقد ان الولايات المتحدة سوف تخلفه في منطقة الشرق الأوسط ها هي فرنسا تسعى سعيها أيضاً لكي تكون طرفاً في المشهد. على مدى شهر ونصف مضت زار الرئيس "إيمانويل ماكرون" لبنان مرتين، ثم عاد فظهر في بغداد لاجراء لقاءات مع رئيس الجمهورية برهم صالح ورئيس الوزراء مصطفى الكاظمي ورئيس حكومة كردستان نجيرفان بارزاني. علاوة على ذلك عزز ماكرون الحضور العسكري الفرنسي في المنطقة من خلال نشر وحدات بحرية في شرق المتوسط قوامها حاملة طائرات مروحية وفرقاطة.
من الناحية الرسمية صدرت الأوامر بهذه التحركات لدعم جهود اغاثة لبنان عقب انفجار الميناء المدمر في 4 آب، بيد ان هذا لا يفسر وصول جنود فرنسيين وطائرات فرنسية الى جزيرة كريت اليونانية او منظر طائرتين نفاثتين تحلقان في سماء قبرص. الوحدات البحرية على وجه الخصوص قدمت استعراضاً ملفتاً للانتباه بظهورها مع البحرية اليونانية للقيام بتمارين مشتركة.منذ وقت طويل كان صانعو السياسة الفرنسيون يصرون على التشبث بادعاء ان فرنسا لا تزال قوة لها مكانتها في الشرق الأوسط وشمال افريقيا وشرق المتوسط، وهم يبيعون اسلحة باهظة الثمن لتشكيلة منوعة من الدول كما اشتركوا مع الأميركيين والانكليز في عمليات عسكرية عديدة، وهم مساهمون في عمليات مكافحة الإرهاب لاسيما في شمال افريقيا. كذلك يعلن الرئيس الفرنسي بين حين وآخر عزم بلاده على التوصل الى حل للصراع بين الاسرائيليين والفلسطينيين.
تلك المساعي كانت تتلاشى سريعاً في اغلب الاحوال قبل حلول نشرة الاخبار التالية، بيد ان الفرنسيين اليوم يبدون اكثر جدية بشأن دورهم في هذه المناطق ذات العلاقات المتداخلة. يسعى ماكرون لتثبيت الادعاء بأن فرنسا لديها الرغبة والاستعداد للجوء الى القوة من اجل إحلال النظام والاستقرار في المنطقة. فما هو سر هذا التحول؟ مكمن السر بكلمات قليلة مختصرة هو: اللاجئون والطاقة وتركيا.
قبل نحو عقد من الزمن ابدى احد رؤساء فرنسا السابقين، هو "نيكولاس ساركوزي"، الرغبة والحماس للقيام بتدخل عسكري دولي من اجل اسقاط الزعيم الليبي معمر القذافي. لم يكن اهتمام ساركوزي باسقاط النظام الليبي نابعاً من رغبة في نشر الديمقراطية في ليبيا، بل كان يشعر بالقلق من ان يؤدي العنف الذي يهدد به القذافي كرد على الانتفاضة المضطرمة ضده الى دفع موجات من اللاجئين صوب السواحل الأوروبية. يبدو اليوم ان القضية نفسها هي التي تسوق ماكرون صوب ليبيا، ولكن مع لمسة تغيير. فبدل التخلص من الدكتاتور راح ماكرون يبحث عن شخص يستطيع مساعدته على الوصول الى سدة السلطة، وعندما اصطفت فرنسا الى جانب اللواء خليفة حفتر، وهو احد قادة جيش القذافي يتولى حالياً قيادة ما يسمى الجيش الوطني الليبي، ضد حكومة طرابلس المعترف بها دولياً، كانت الحسابات تفيد بأن يصبح حفتر الرجل القوي الذي تحتاج اليه فرنسا للحفاظ على تماسك ليبيا وبالتالي منع الليبيين والافارقة الاخرين من الوصول الى جنوب اوروبا.
بعد ذلك هناك تركيا. هنا يتخطى ضعف الثقة بين الدولتين مجرد الاستياء الذي يكنه ماكرون للرئيس التركي رجب طيب اردوغان أو الاستهانة التي ينظر بها اردوغان الى نظيره الفرنسي. ففرنسا، ومعها عدد من الاعضاء الاخرين، كانت لديها شكوك قديمة حيال رغبة تركيا في الانضمام الى الاتحاد الأوروبي. وإذا ما نحينا ضعف سجل تركيا في الديمقراطية جانباً، وهو الحائل حالياً دون حصولها على عضوية الاتحاد، فإن الشيء الأبرز هو ان المسؤولين الفرنسيين مجمعون على أن يبقى نادي الاتحاد الأوروبي مكوناً من دول ذات اغلبية مسيحية تجمع بينها جغرافية محددة موحدة، وهي معايير لا يمكن لتركيا ان تستوفيها ابداً. يمكن مقارنة هذا بنادٍ من الدول يقوم على اساس مجموعة من المثل والاعراف، وهذا يمكن ان تكون انقرة مؤهلة للقبول فيه مستقبلاً، بيد ان سلوك حزب العدالة والتنمية التركي المتكرر لن يأتي في صالح الموقف، إذ بدا فجأة وكأنه يتمادى في السلطوية والقومية والعدوانية على الصعيد الدولي وينتهج نهجاً إسلامياً أكثر تصلباً مما كان يوم تصور كثيرون في الغرب انه مثال للطليعة القائدة صوب سياسة اكثر انفتاحاً ولبرالية في تركيا والعالم الاسلامي. كذلك فإن ابداء الحكومة التركية استعدادها لاستخدام التهديد بإطلاق سيول من اللاجئين باتجاه اوروبا لم يكسبها كثير من الاصدقاء في اوروبا، وخصوصاً بين صناع السياسة الفرنسيين.
كانت زيارة ماكرون للعراق في شهر ايلول، تلك الزيارة التي أكد فيها على سيادة العراق وتأييده للحكم الذاتي في اقليم كردستان، شأناً عادياً لا غبار عليه، بيد أنها كانت ايضاً رسالة الى تركيا بأن ليس جميع الدول مستعدة لغض الطرف عن عملياتها العسكرية التي تجري في العراق ضد حزب العمال الكردستاني رغم معارضة المسؤولين في بغداد. لا شك أن ماكرون كان يقصد ايضاً مضايقة الاتراك نظراً لحساسيات تركيا المعروفة بهذا الصدد.
بيد أن الرهان الأكبر في الدراما الفرنسية التركية هو البحر المتوسط. فاستياء فرنسا من التجبر الذي تمارسه تركيا بحق قبرص واليونان له صلة مباشرة بالاتفاقية البحرية التي ابرمتها انقرة مع حكومة الوفاق الوطني في طرابلس في اواخر العام 2019، إذ يبدو ان الفرنسيين مقتنعون بأنهم لا ينبغي لهم الجلوس مكتوفي الايدي بينما الاتراك يرسمون الخطوط على هواهم مقطّعين اوصال البحر المتوسط لصالحهم. لا يبالي الفرنسيون بواقع أن انقرة تفعل ذلك رداً على التحدي الجيوستراتيجي الذي تواجهه من قبل الاصطفاف اليوناني المصري القبرصي الاسرائيلي، لذلك تذهب تصوراتهم الى انها محاولة لفرض السطوة التركية على المنطقة، وهذا لا يمكن تركه يمر بدون اعتراض. من هنا جاء توثيق العلاقات مع اليونان وقبرص والمساعي الدبلوماسية الناجحة لتوجيه الانتقاد الى الحكومة التركية في مؤتمر قمة دول اوروبا والبحر المتوسط مؤخراً الذي كان بمثابة ضربة لدبلوماسية أنقرة.
ظهرت تعليقات كثيرة مؤخراً بشأن التنافس من اجل الغاز.. من اجل المناطق الاقتصادية الحصرية.. من اجل الجزر.. وهي صحيحة ودقيقة، ولكن ما أسهل ما تغوص في وحل تعقيداتها.عند النظر من زاوية مختلفة تبدو فرنسا وكأنها قد أقدمت على ما اتخذته من اجراءات في شرق المتوسط بحكم كونها قوة كبرى تزاحم قوة كبيرة ثانية هي تركيا، على مسألتي الامتياز وامتلاك سلطة بسط النظام في المنطقة، ونظراً للكيفية التي تلاحمت بها عدة دول حول الائتلاف الاخذ بالبروز تحت قيادة فرنسا يجوز القول ان فرنسا هي صاحبة اليد الأقوى حتى الان.
يستحق ماكرون الاشادة لإلقائه نفسه في مخاضة لبنان، وهو ما لم يقدم عليه احد سواه، كذلك لأنه انتصر لحقوق القبارصة واليونانيين في شرق المتوسط ووقف بوجه تركيا الذي غدا التجبر على جيرانها عادة لديها. رغم هذا ليس من الواضح ما الذي يريد ماكرون ان يفعله عندما تصبح فرنسا صاحبة النفوذ في المنطقة عدا الوقوف بوجه تركيا. المأخذ على الرئيس الفرنسي هو انه لا يطمئن الى أحد غير نفسه، ولكن ماكرون امامه فسحة واسعة في الشرق الأوسط وشرق المتوسط تسمح له بتغيير هذا التصور.
عن مجلة «فورن بولسي»