ما الذي يدفع بأرمينيا وأذربيجان نحو الحرب؟

بانوراما 2020/10/03
...

ترجمة: انيس الصفار
اشتد القتال على طول الحدود بين ارمينيا وأذربيجان مؤخراً والسبب هو منطقة اسمها نغورنو كاراباخ.
سقط جراء ذلك عشرات القتلى وهناك ادعاءات بأن طائرات مروحية ودبابات قد دمرت.
استنفرت الدولتان قواتهما الاحتياطية واعلنت الاحكام العرفية وأعلنت حالة الحرب في بعض المناطق.
القتال بين هذين البلدين شأن عادي إذ وقعت مئات الحوادث المشابهة خلال السنوات الماضية، ولكن الجولة الجديدة تنذر بالتحول الى حرب شاملة مثلما حدث في التسعينيات.
إنه ذلك الصراع الكبير المنسي منذ تفكك الاتحاد السوفياتي، وهي الحرب التي استمرت للفترة 1992 - 1994 ثم بقيت هاجساً جاثماً على وعي الأمتين منذ ذلك الحين بينما نسيها الغرب رغم مقتل 20 ألف انسان فيها وتهجر الملايين جراء اعمال التطهير العرقي.
في قلب تلك الحرب تكمن نغورنو كاراباخ، وهي بقعة مرتفعة ساحرة من الأرض لها أعمق الأثر في المخيلة العاطفية للبلدين.
كانت المنطقة ضمن ما وقع في يد السوفييت عند استيلائهم على جنوب القوقاز في الفترة 1919 - 1920، ولكنها اعطيت الى اذربيجان رغم ان أغلبية سكانها من الأرمن.
لم تكن تلك مشكلة حينها لأن ارمينيا وأذربيجان كانتا تابعتين كلتاهما للامبراطورية السوفييتية، وكان كثير من الارمن يعيشون في الجمهورية الجارة والعكس بالعكس.
حتى الفوارق الدينية بين أرمينيا، ذات الأغلبية من المسيحيين الأرثودوكس، وأذربيجان، التي يغلب بين سكانها المسلمون السنّة، لم تكن تعني الكثير في دولة تتبنى الإلحاد رسمياً ولكن مع تصاعد الاحتجاجات العرقية والدينية في الثمانينيات بدأ السكان الأرمن يتذمرون بشدّة من اوضاعهم ومن حملة "الأذرجة" التي تقوم بها السلطات في باكو.
في 1989 - 1990 تفجر العنف في نغورنو كاراباخ وكذلك في مدينتي باكو وسومقاييت الأذربيجانيتين وارتكبت بحق الأرمن مجازر منظمة جعلت الجيش السوفياتي يفرض الاحكام العرفية في محاولة لوقف العنف بلا جدوى.
بحلول العام 1991، ومع انهيار الاتحاد السوفياتي، لم يعد هناك مفر من تجدد المواجهة بين الدولتين بسبب المنطقة المتنازع عليها (التي أعلنت استقلالها عن اذربيجان من جانب واحد) خصوصاً عندما اعتقد الزعماء أن المغالاة في استعراض المشاعر الوطنية هي السبيل الاسهل لاحكام سيطرتهم.
كانت الحرب نفسها مأساة لم تخل من كوميديا، حيث ادى تفكك الجيش السوفياتي الى ظهور اعداد هائلة من المرتزقة الروس الذين يقاتلون على الجانبين، منتقلين من خندق الى الخندق المعادي احياناً قبل ان يطلع الصباح، ووسط تلك الفوضى انتعشت الجريمة.
في البداية انسحبت ارمينيا ولكنها تمكنت من احراز النصر حتى انتهى الأمر بوقف اطلاق النار في 1994 بوساطة موسكو فأتيحت لأرمينيا في نهاية المطاف السيطرة على معظم منطقة نغورنو كاراباخ.
خلفت خسارة الحرب جرحاً غائراً في قلب اذربيجان لأن الأمر لم يقتصر على خسارة الأرض ومعاناة الأذربيجانيين الذين أخرجوا من ديارهم على يد القوات الأرمينية بل كان هناك ايضاً التفاوت الحجمي بين سكان الأمتين، فتعداد الأذربيجانيين يعادل نحو ثلاثة اضعاف الأرمن لذلك ادى هذا الى ظهور تفسيرات كثيرة على اساس نظرية المؤامرة لتبرير الخسارة، بما في ذلك الاعتقاد الشائع بأن الولايات المتحدة قدمت دعماً سرياً للأرمن.
لكن واقع الأمر ببساطة هو ان القوات الأرمينية كانت تتمتع بقيادة افضل كما كانت اقل فساداً وأعلى التزاماً.
هكذا قاتل المتطوعون الأرمينيون بحماس أعلى من المجندين الأذربيجانيين بمعنوياتهم الخائرة، كما كانت روسيا منحازة الى جانب أرمينيا بشكل متزايد وتواليهم بشحنات مستمرة من الاسلحة والتدريب العسكري. 
بدلاً من ضم منطقة نغورنو كاراباخ الى باقي اراضيها، ولأجل الحفاظ على موقع أقوى في المفاوضات، أبقتها أرمينيا جمهورية ذات استقلال شكلي تحمل رسمياً اسم جمهورية أرتساخ، وقد قامت الولايات المتحدة وروسيا بدور مهم في المحاولات الطويلة العقيمة لإيجاد حل دائم للمسألة.
في الولايات المتحدة كان للأميركيين من أصول أرمينية جماعات ضغط مؤثرة الى حد ما، في حين امتلكت اذربيجان استثمارات ضخمة وعلاقات وطيدة مع شركات النفط الأميركية.
كان الطرفان موافقين نظرياً على ما يسمى "مبادئ مدريد"، التي أقرت في منتصف عقد ما بعد 2000، ولكن أرمينيا لم يكن لديها الاستعداد للتخلي عن سيطرتها الفعلية ولا أذربيجان كانت عندها الرغبة للتنازل عن مطالبها. 
شهد العام 2019 تصاعداً حاداً في الخطاب من الجانبين كل يريد تأكيد ادعاءاته، وفي الصيف وقعت احتكاكات دامية على طول الحدود القى كل طرف بمسؤولية اندلاعها على الطرف الآخر وبدأ السياسيون يظهرون وهم ملتفون بالعلم.
في هذه الجولة الجديدة يصعب تصور خروج أذربيجان ظافرة وقد استعادت نغورنو كاراباخ.
اسفرت المناوشات الأولية عن خسارة ارواح في الجانبين، ولكن تدمير المعدات كان أشد في الجانب الأذربيجاني إذا ما صدقت الصور.
أرمينيا تسيطر على المرتفعات، وهذا يجعل تقدم أذربيجان في تلك البقعة الجبلية الوعرة أمراً بالغ الصعوبة، كذلك يصف الخبراء المستقلون مستوى استعداد الجيش الأذربيجاني بالضعيف، فهو جيش ساخط يشيع فيه الفساد وضعف الكفاءة وتصل نسبة الفرار فيه الى 20 بالمئة.
ما بين عامي 2008 و2014 درّت عائدات النفط أسلحة ومعدات جديدة على هذا الجيش ولكن هبوط الاسعار جعل البلد يعاني مالياً وسط فوضى سياسية وقمع شرس، كما ان الجيش نفسه يفتقر الى التدريب المناسب وقوة العقيدة لاستخدام اسلحته بكفاءة.
أية اندفاعة غير متوقعة تقدم عليها أذربيجان قد تكون حافزاً ايضاً لحدوث مزيد من التدخلات المباشرة من قبل موسكو، لفرض وقف سريع لإطلاق النار على الأرجح، وقد عرضت روسيا وايران استعدادهما لإجراء مفاوضات تضع حداً للقتال.
توسع رقعة الصراع احتمال مقلق هو الآخر، فقد تحركت تركيا مثلاً بقوة لنصرة باكو من منطلق علاقاتها القوية مع أذربيجان، بالاضافة الى عداء انقرة القديم للأرمن الذين لا يفتؤون يعيدون الى الذاكرة قضية إبادة الأرمن على يد الاتراك في 1915 وهي واقعة يصر الاتراك على نفيها.
اما الاعتبارات الدينية فلا تحظى بالتركيز الذي تحظى به القضية القومية، لذلك لا يتوقع أن تتحول نغورنو كاراباخ الى قضية جهادية مثلما حدث في الشيشان، ولو ان هذا قد يتغير مع مرور الزمن.
التوقع الأرجح هو ان تحدث حرب مؤلمة قصيرة نسبياً تعقبها مرحلة سلام آخر معلق بلا حل.
تفيد إحصائيات الإصابات أن معظم الذين قتلوا في هذه المرة لم يكونوا قد ولدوا بعد يوم اندلع الصراع في المرة الأولى.
 
* جيمس بالمر/عن مجلة فورن بولسي