الطاعون القرمزيّ: حين رأى جاك لندن الوباء قادماً

ثقافة 2020/10/03
...

 جو ماثيوز
ترجمة: جمال جمعة
في العام 1910، كتب مؤلف من كاليفورنيا، وكان مشهوراً من قبل بـعمليه(نداء البرّية) و(الناب الأبيض)، روايةً قصيرة عما بعد نهاية العالم، تتحدث عن جائحة في القرن الحادي والعشرين في ولايته التي يقيم فيها.
إن استعادة رواية (الطاعون القرمزي) الآن، في خضم أزمة (كوفيد- 19)، هي لاستثارة العجب عن مدى فهم جاك لندن ـ منذ قرن مضى ـ للتحديات التي يواجهها سكان كاليفورنيا الآن.
تخيّل جاك لندن وباءً عالميًا يحدث في عام 2013 ويودي تقريبًا بحياة جميع الناس في كاليفورنيا، ومن المحتمل على الأرض. في هذه الرواية، التي يصبح فيها ضحايا “الطاعون القرمزي” حمر الوجوه قبل موتهم، كما يتذكر بعد 60 عامًا، في عام 2073، الناجي الوحيد من الوباء: أستاذ الأدب الإنجليزي السابق في جامعة كاليفورنيا في بيركلي.
توفي جاك لندن عام 1916، قبل فترة طويلة من التقدم الطبي الذي وقانا من العديد من الأمراض. وبعد أن عانى من انتشار الطاعون الدبلي في مطلع القرن في سان فرانسيسكو، كان أكثر دراية بالأوبئة مما نحن عليه الآن. وبالتالي تشرح (الطاعون القرمزي) بحرفيةٍ جوانب السلوك الإنساني التي لم نتعرف عليها إلا خلال الوباء الحالي، ابتداء من الأهمية الهائلة لعزل نفسك، إلى الجنون الجماعي في متاجر البقالة، إلى كل الطرق التي لا تعد ولا تحصى، الجميلة منها أو الشنيعة، التي يتصرف فيها الناس في لحظات مثل هذه.
لكن رسالة جاك لندن الأكبر كانت أكثر قوة وبصيرة: حينما تضرب الجائحة، لا تدع انتباهك يتشتت في إنقاذ منزلك أو عملك أو حتى اقتصادك. إعط الأولوية للسلامة، ولإنقاذ أكبر عدد ممكن من البشر، وأكبر قدر من المعرفة الإنسانية، بقدر ما تستطيع.
كان جاك لندن من منطقة خليج سان فرانسيسكو، وروايته عن الجائحة تدور بثبات في شمال كاليفورنيا. نحن نبدأ في عام 2073، مع بروفيسور مسنّ يتفادى الدببة. عندما يتسلّم قطعة نقدية من عام 2012 عُثر عليها عند رعاة الماعز في منطقة سان خوسيه التي كانوا قاطنيها الوحيدين، يحاول البروفيسور أن يوضح طبيعة الحياة قبل وباء 2013 لأحفاده، الذين كانوا مثل غيرهم من البشر آنذاك، أمّيين وصيادين بدائيين. إذ إن التعليم قد اندثر مع جائحة 2013.
رؤيا جاك لندن للحياة في مطلع القرن الحادي والعشرين لم تكن مشتطةً حقًا. لقد تنبأ باتصالاتنا اللاسلكية، بازدهار وثراء منطقة الخليج، وبحقيقة أن أميركا ستدار من قبل أصحاب المليارات. في قصة جاك لندن، يتم تعيين رئيس الولايات المتحدة من قبل “مجلس إدارة الأقطاب”، وهو مكوّن من دزّينة من الرجال الأثرياء الذين يمولون ويسيطرون على كل شيء. منطقة الخليج التي تخيلها جاك لندن كانت مليئة بالمطاعم والأماكن الثقافية.
لكن في صيف عام 2013، يضرب الطاعون القرمزي، وسرعان ما تتوقف جميع المؤسسات الحديثة. ثم تقوَّض الأنظمة الأساسية لحياتنا الحديثة بالمرض والموت، وبالخوف الذي أعقب ذلك. “الأنظمة العابرة تلاشت مثل رغوة”، يقول البروفيسور عن ذلك الزمن، “هذا كل شيء، رغوة وعابرة. كل كدح البشر على الكوكب لم يكن سوى زَبَدٍ يذهب جفاء”.
يصيب جاك لندن بشكل رهيب في رؤيته مأزقنا الحالي. فعلى الرغم من كل التقدم الطبي في القرن الحادي والعشرين، لم يتمكن العلماء الذين تخيّلهم من فهم الكائنات الدقيقة المسببة للطاعون بالسرعة الكافية. في الرواية، ثمة ثقة كبيرة بقدرة المجتمع الحديث على إيجاد علاج. “لقد بدا الأمر خطيرًا، لكننا في كاليفورنيا، كما في أي مكان آخر، لم نشعر بالقلق”، يتذكر البروفيسور، “كنا على يقين من أن علماء البكتيريا سيجدون طريقة للتغلب على هذا الميكروب الجديد، تمامًا كما تغلبوا على الميكروبات الأخرى في الماضي».
هذا المرض الخيالي، مثله مثل (كوفيد- 19)، ينتقل بسهولة عن طريق أولئك الذين لا أعراض لديهم.  خلال محاضرة، يشاهد البروفيسور أحد طلابه يتحول إلى اللون القرمزي ويموت. الجامعات والمدارس كانت من بين أوائل الأشياء التي تم إغلاقها. قبل ذلك بفترة طويلة، تم إغلاق جميع المؤسسات، إذ عانى الناس من التعامل مع الواقع من حولهم.
«كل شيء قد توقف”، يتذكر البروفيسور، “كانت بمثابة نهاية العالم بالنسبة لي، عالمي.. كان الأمر أشبه برؤية الشعلة المقدسة تنطفئ على مذبح الثالوث المقدس. لقد صُدمت، صدمت بشكل لا يوصف».
كما كانت لدى جاك لندن فكرة واضحة عما يمكن أن يحدث في متاجر البقالة أثناء الجائحة الحديثة أيضًا. عندما تنحدر الجحافل وتشرع في السرقة من متجر محلي، يبدأ المالك، الذي كان غير قادر على منعهم، في إطلاق النار على الزبائن. “كانت الحضارة تتداعى، وكان كل واحد لنفسه”، كما يروي البروفيسور. مع انتشار الحمى في منطقة الخليج المكتظة بالسكان، يحاول أصحاب الثروات الهروب من المنطقة. لكن الأمر ينتهي بهم إلى نشر الطاعون في المناطق الريفية.
يجاهد البروفيسور لكي يبقى رابط الجأش لأنه يرى الناس يتصرفون بكرم وبطولة، ولكنهم يموتون بعد ذلك، حتى عندما يظل الأنانيون أحياء. “لقد كان رجلاً عنيفًا وظالمًا”، يتحدث البروفسور عن أحد الرجال الناجين، “لماذا أبقت عليه جراثيم الطاعون، لن أستطيع فهم ذلك أبداً. يبدو، على الرغم من مفاهيمنا الميتافيزيقية القديمة بشأن العدالة المطلقة، فإنه ليس ثمة عدالة في الكون».
لم يكن البروفيسور متأكداً من سبب نجاته. ربما يكون محصّناً. لكنه يأخذ أيضًا بنصيحة شقيقه لعزل نفسه. “ لقد وافقت على كل هذا”، “يتذكر البروفيسور، “البقاء في منزلي، ولأول مرة في حياتي أحاول الطبخ. ولم يظهر الطاعون لي».
بعد وفاة كل شخص تقريبًا، يعثر البروفيسور على مُهر صغير فيشق طريقه شرقًا، ويأكل الفاكهة التي لم تزل معلقة، غير مقطوفة على الأشجار ويراوغ مجموعات من الكلاب التي عاشت على التهام الجثث. يعبر وادي ليفرمور، ثم يبحث عن الطعام عبر سان هواكين، حيث يجد حصانًا يمتطيه في وادي يوسمايت. لمدة ثلاث سنوات، جعل من “الفندق الكبير” هناك منزلاً له، إلى أن هيمنت عليه الوحدة. “مثل الكلب، كنت حيوانًا اجتماعيًا، وكنت محتاجاً إلى بني جنسي”، كما يقول.
لذلك عاد ممتطياً حصانه نحو منطقة الخليج، حيث اكتشف بعض الناجين الآخرين الذين يعيشون في مخيمات مختلفة. ينضمّ البروفيسور في النهاية إلى أحد المعسكرات في مدينة سونوما.
المجتمع لم تتم إعادة بنائه. بعد مرور ستين عامًا على الطاعون القرمزي، تضحي كاليفورنيا مكانًا مأهولاً قليلاً بالقبائل الصغيرة. هناك قبيلة “ساكرامين ـ توس”، و”بالو ـ ألتوس”، و” كارميليتوس”، وقبيلة البروفيسور الخاصة “سانتا روزانس”، المقيمة في غلين ألين (حيث كانت لدى جاك لندن مزرعة، والآن هي متنزه حكومي). يسمع البروفيسور أيضًا قصصًا عن قبيلة “لوس أنجليتوس”. “لديهم بلدة جيدة هناك، لكنها حارّة جداً”، كما يقول.
البروفيسور لا يتقبل أبدًا واقع ما بعد الجائحة. “العالم العظيم الذي كنت أعرفه في صباي ورجولتي المبكرة قد مضى. لقد توقف عن الوجود”، كما يقول. “نحن الذين كنا أسياداً على الكوكب، على أرضه، وبحره، وسمائه، نحن الذين كنا مثل الآلهة، نعيش الآن في همجية بدائية على امتداد مسار المياه في هذه الأرض الواقعة في كاليفورنيا».
الرواية تُختتم بإخبار البروفيسور أحفاده بأنه قام بتخزين جميع كتبه في كهف في منطقة تلغراف هيل، على أمل أن تنجيه المعرفة. إنه يتنبأ بأن حضارة جديدة ستنهض في نهاية المطاف، لكنها ستفشل أيضًا، لأن الطبيعة تنتصر في النهاية دائمًا.
«كل الأشياء تمضي”، يقول البروفيسور.
كان جاك لندن معروفاً بثقته في الحيوانات وارتيابه من الناس والمجتمعات التي يشيدونها. من وجهة نظري، أرى أن الكتاب يستهين 
بقدرة مؤسسات القرن الحادي والعشرين 
على الصمود، وبخير وعزيمة إخواننا 
البشر.
لكن هذه الرواية القديمة الصغيرة تحتفظ بقوتها الكبيرة كتحذير عن هشاشة دولتنا وحضارتنا. حتى المجتمعات المتقدمة يمكن أن تنهار بسرعة. وهو يكتب من الماضي، يذكّرنا جاك لندن بأن الأهوال التي نعيشها اليوم لم تكن فعلاً غير متوقعة، وأننا فيما نبحث عن ملاذ الآن، ينبغي ألا نغفل عن المستقبل.