نجاح هادي كبة
ديوان غزل حلي – أنموذجا موفق محمد متعلق بالأم فحتى الحلة مدينته يصفها بالرحم الذي أنجبه، لأنه يتقمص الحلة مدينته ويتلبسها وهو يشعر أنه يعيش في رحمها، لذلك فهو جزء منها، لأن صوتها مغموس بهسهسة الخبز الذي يسد رمقه ولجمالها في نهرها الهادر بالحمام الذي يتصوره مدّ يديه « كالحبوبة « وسحبه برفق من رحم أمه(مدينته) ليكون النهر حاضنة كرحم الأم بعمقه الواسع، فالشاعر يؤكد أنه يعيش دائما برحم مدينة الحلة سواء أكانت أماً أم نهراً يحتضنه :
أرجو أن لا يخاف أحد/ ها أنا أحب الحلة/لا لأنها مدينتي/فما زلت جنينا في رحمها/ أسمع صوت أمي/هسهسة الخبز/ وفي نهرها الهادر بالحمام/ هذا النهر الذي مدّ ذراعيه وسحبني/ برفق من رحمها.
ويبدو أن علاقة الشاعر بالحلة علاقة الابن بالأم ففي المراحل الاولى من حياته، يميل الابن الى أمه ثم يأخذه الصراع مع الأب، خوفا من فقدان علاقته بأمه ويعد الأب غريما له، لأنه استحوذ على أعز ما يملك وهو أمه. ويسمي فرويد هذه العلاقة بين الابن والأم بعقدة أوديب ( نسبة الى الاسطورة اليونانية المعروفة) ويرى أن المرحلة الأوديبية لا تزول الا بنضج الابن بعد أن يمر بمراحل أخرى .
وليس الحنين الى رحم الأم ومحاولة الرجوع اليه فقط من خلال الرحم الكبير الحلة ما يشغل بال الشاعر ويؤرقه، فهو يتذكر عندما كان وليداً كيف ينام على صدر أمه(مدينته) ليرضع حليبها، وهذا ما يسميه فرويد الفميةالأوديبية، إذ يتعشق الطفل صدر أمه ويمص حليبها، ويتساءل الشاعر بتجاهل العارف، أتراه يرى صدراً مفتوحاً في عتبة أخرى حين فقد مدينته الحلة :
أنا أحب الحلة/أعشق أزقتها التي تفوح برائحة العنبر/ وحليب أمي وهي ترضع آخر العنقود/ على العتبة وقد طار منها/فأين هو الآن/ أتراه يرى صدراً مفتوحاً في عتبة.
إنَّ الشاعر يذوب في حب مدينته الحلة(أمه) وهو كالطفل الذي يرضع صدرها ويعبث بخدودها :
المدن نساء ومباركة في النساء الحلة/أحب الرازقي المتفتح في خدود فتيانها/ وأذوب.
وبعد أن تكتمل ولادة الشاعر في مدينته(الحلة) وتعلق بها كأم على مقربة من نهرها الخالد يتبارك الشاعر بطين نهرها، فكان قماطه ليس مصنوعاً من قماش، بل من طين نهرها، فهو لا يريد أن يفارق أصله الذي خلق منه ولا يفارق مدينته الحلة :
أنا أحب الحلة لأني ولدت على بعد/ موجتين من نهرها فجراً/فسمَّتني الحبوبة موفقاً وقمّطتني/بطين النهر/في المساء.
ويزيد الشاعر قدسية المكان(مدينته الحلة) فلم يقمط بطين النهر فحسب، بل أسرجت أمه سبعا من الشموع وقذفته(سيستني) في النهر باسم زينب البتول(ع)، لتدفع عنه الشر كما تطرد الخرزة ذات السبع العيون الشر من الانسان .
وسيستني بجاري البتول/ داعية لي الّا أكون شاعراً
فأمه تخشى عليه من التعب حين يكون شاعراً كما تخشى بالمثل عليه مدينته الحلة من التعب لكن نهر الحلة موجُه كلّه دم ونواح، لأن مدينته الحلة تحملت ثقل الآلام للدفاع عن العراق، فكأن بلده العراق تحوّل الى أم ولد غريق تولول وكأنها أم ناثرة شعرها منذ بدء الشرائع تبكي وليدها :
ففي كل موجة دم ونواح/ وكأن العراق أم ولد غريق تولول/ ناثرة شعرها منذ بدء الشرائع في الشرايع/ وتيقنت بأن النهر نواح الثكالى وأنين/ المذبوحين.
وزَيَد نهر الحلة الذي يطفو على سطحة شيب مشتعل يمشطه الشهداء الذين دافعوا عن بلدهم العراق :
وإنَّ هذا الأبيض المشتعل في/ أمواجه من منبعه الى مصبه شيب/ تمشطه القرابين المسفوحة ليل/ نهار.
أبعد كل هذا.. لا أحب الحلة/أعشقها وأعشق مجانينها المتأبطين كتباً.
فالخلود للعراق ما دام فيه مدن مثل الحلة تذود عن حياضه وتدافع عنه من شر الأشرار وكيدهم : الخلود للعراق الذي لا نريده أن يموت/ ولن يموت.. ولن يموت/فقد تركنا حليب فتوتنا في راحتيه/ وقلوبنا في صدره.
فالعراق الأم الكبيرة والحليب الذي رضعناه من أمنا(الحلة) في راحتيه وقلوبنا في صدره كما يتعلق الوليد بصدر أمه .