ما لم أكن أعرفه من قبل وقد أتيحت لي معرفته أثناء مراجعتي المعاجم بحثاً عن دلالة الجائحة لدى العرب قديماً هو تعبير (الجارف). وهذه واحدة من فوائد الحوار والاختلاف فيه، حواري مع الصديق الذي كنت قد تحدثت عنه في مقال الأسبوع الماضي هو ما أوصلني لهذه الدلالة القديمة. التعبير الأكثر شيوعاً بلغتنا المعاصرة والمتضمن صفة (الجارف) هو ما نتحدث به عن (سيل جارف) كلما كنا بصدد إعصار أو فيضان أو أمطار غزيرة.
لكن معنى الجارف في اللغة العربية قديماً ليس بالبعيد عن هذا الاستخدام المعاصر، التعبير المجازي هو ما يقارب بين الاستخدامين والمعنيَين؛ القديم والمعاصر.
في (تاج اللغة وصحاح العربية)، وهو معجم الجوهري أبي نصر إسماعيل بن حماد، والمشهور اختصاراً بـ (الصحاح)، يرد تعريف الجارف هكذا:” والجارِفُ (هو) الموتُ العامُّ”. وهو تعبير أقرب إلى معنى الموت المتفشي جرّاء وباء، وربما أيضاً بسبب أية كارثة أخرى، والتعبير المعجمي لم يقف حصراً عند جنس معين، إنه موت عام، بحيث لا يبتعد معجمٌ تالٍ مثل (القاموس المحيط) للفيروز آبادي عن هذا المعنى حين يقول في معرض شرحه دلالة الجارف:” الموتُ العامُّ، والطاعونُ، وشؤمٌ أو بَلِيَّةٌ تَجترفُ القومَ”. لكن هذا التعبير الذي يأتي به الفيروز آبادي يفصح بوضوح عن صلة الجارف بالبشر من جانب وعن دلالته الأكبر على الموت نتيجة وباء فاشٍ.
يقتفي الفيروز آبادي أثرَ سابقه ابن منظور صاحب معجم (لسان العرب) في اقتران (الجارف) بالوباء وبالذات (الطاعون)، فيقول في معجمه إن الجارف” شُؤْمٌ أَو بلِيَّةٌ تَجترف مالَ القوم”. غير أن ابن منظور يأتي بواقعة لتقريب المعنى أكثر حين يتحدث عن طاعون كان قد مرّ بالبصرة، فيصف هذا الطاعون، وهو وباء طبعاً، بالجارف حسب النص المأخوذ من (لسان العرب) والذي يفيد بأن” الطاعون الجارف الذي نزل بالبصرة كان ذريعاً فسُمّي جارفاً جرفَ الناسَ كجرفِ السيل”.
إشارة ابن منظور لطاعون البصرة منقولة من الجوهري، المتقدم زمناً على كلٍّ من ابن منظور والفيروز آبادي. ففي (الصحاح) يرد ذكر ذلك الطاعون في ثنايا شرحه لمعنى الجارف، وكالتالي:” الجارفُ طاعونٌ كان في زمن ابن الزّبير، وورد ذكره في الحديث طاعون الجارفِ، وموتٌ جُرافٌ منه”.
والموت (الذريع) حسب المعجم نفسه (لسان العرب) هو موت” سريع فاشٍ لا يكاد الناس يَتدافَنون، وقيل: ذريع أَي سريع”، و” والإذراعُ: كثرةُ الكلام والإفراطُ فيه، وكذلك التَّذَرُّع”، وأيضاً فإن” ذريعَ المشي (تعني) سريع المشي واسعَ الخطوة”، وبموجب (لسان العرب) أيضاً فقد كان يقال:” هذه ناقة تُذارعُ بُعْد الطريق أي تمدّ باعَها وذراعها لتقطعَه، وهي تُذارع الفلاة وتذرعها إذا أسرعت فيها”. بهذا فإن (الذريع) تعبير عن (السرعة)، في حال الوباء فهو سرعة انتشار الوباء وسرعة الموت جراءه بحيث (لا يكاد الناس يتدافنون). الوباء كان هو الطاعون الذي يوصف على أنه” المرض العام والوباء الذي يَفسُد له الهواء فتفسد به الأمزجة والأبدان؛ أراد أَنه الغالب على فَناء الأمة بالفتن التي تُسفَك فيها الدماءُ وبالوباء”. وهي تسمية اشتقت آنذاك من الفعل (طعن) بمعناه المباشر:” طعنه بالرمحِ وخَزه بحربةٍ ونحوها”، لكن الفعل، وبموجب السياق الذي يأتي فيه، يأتي على أكثر من دلالة ومعنى، وكلها معانٍ مجازية:” طَعَنَه بلسانه وطعنَ عليه يطعنُ ويطعَنُ طعناً وطعَنَاناً: ثَلَبَهُ” و” وقال بعضهم: الطَّعنُ الدخولُ في الشيءِ” وطاعن في السن، والطعن بموجب ما ينقله (لسان العرب) عن بعضهم هو” الدخولُ في الشيء”، ثم” طعنَ الرجلُ والبعير، فهو مطعون وطعين: أَصابه الطاعون».
أمامنا إذاً، بموجب المعاجم الثلاثة، معنيان، هما (الجارف) و(الذريع)، وقد جرى استخدامهما في وصف الوباء، وكان الطاعون نموذجاً للوباء الفاشي بين الناس آنذاك.
(الذريع) معنى مجاز يقترن بسرعة انتشار الوباء وسرعة الموت جراءه، لكن (الجارف)، وحسب الجوهري، هو كناية عن الوباء نفسه:” الجارفُ طاعونٌ” كما يقول في (الصحاح).
تعبير (الجارف) يبدو وقد غلبت عليه حالياً صيغته المعاصرة التي تقرنه بأثر السيول والفيضانات والأمطار الشديدة بحيث لا يستسيغه السمع حين يراد به التعبير عن انتشار وباء فيروسي، بينما التعبير المتداول حاليا (الجائحة) هو الأقرب للمعنى المراد منه، انتشار وباء معدٍ.
لكن، وفي ويكبيديا (عربي)، نصادف تسمية (الجارف) إنما تقترن، بموجب ويكبيديا، بالأوبئة التي تصيب الحيوانات فقط، وهذا بخلاف ما جاء في المعاجم، بينما (الجائحة) تأتي، حسب ويكبيديا أيضاً، للتعبير عما يصيب البشر حصراً من الأوبئة. وهو تمييز لم تجرِ إحالته في ويكبيديا إلى أي مصدر. لست متأكداً ما إذا كان هذا التمييز مستخدماً الآن من قبل جهات طبية عربية أو مجامع علمية كمقابل للتسمية اللاتينية، الموقع لم يذكر شيئاً عن ذلك.
في كل حال هو تمييز غير مقنع، ذلك أنه في الأقل يخفق في حال الأوبئة التي يمكن أن تطول البشر والحيوانات على حد سواء.