من منا لا يعرف هذه الشخصية الأسطورية، ذلك الطفل اللعبة المصنوع من خشب الصنوبر، عرفناه منذ صغرنا بحركاته وشقلباته الممتعة، وكبرنا بعد ذلك على أمل ألا نكون مثله في الكذب، ألا يتضاعف حجم أنوفنا كلما اختلقنا واحدة، ولكننا كذبنا!
اقتنعنا بأن الكذب واجب ضرورة، الى ان اعتدنا عليه، وقد وصلنا لمرحلة التخطيط له، ان نكون متفانين ونحن نتفنن لتكوين تلك الافتراءات، فالحكمة هي ألا نُمسك، ألا تظهر تلك العلامات الشاذة على ملامحنا، وحال ما اكملت المهمة، نتنفس الصعداء ويهيج الضمير، وتبدأ فعاليات الظنون بالتشقلب في اروقة النفس كما صديقنا اللعبة، لا يهم؛ كان لا بد من الخلاص بكذبة، هذا ما كانت بوابة الانفاس تقوله في كل مرة، ورغم قصر ذلك الحبل، صرنا نجعله أطول كما أنف بينوكيو، لذلك الجميع يكذب لا محالة، المفارقة كانت فقط في حجم الكذبة وضررها، ان نقول ما لا نفعل تلك واحدة، ان نعد او نخلف، ان تصارعنا الشكوك، ان نقرر ولا ننجز، ان نخفي حبنا كما نخفي كرهنا فذلك كذب، ان نكون مغرورين او متواضعين، ان نخطو نحو ذلك القاع بلا تردد ولا رقيب، ونحن متأكدون من هذا الشر، وننصاع نحو حتفنا في وادي الافتراء والظلام، فبينوكيو لم يكذب عندما قال جملته الشهيرة (أنفي ينمو الآن)، ومع ذلك قد طال أنفه بوصتين، فمتى سنكون غير قادرين على الكذب، او على الاقل محصنين منه، عسى ان يصدق الكاذبون، ان نلوذ بصحراء الصراحة بعد ان قتلت شمس صدقها جراثيم الخداع، ألا تأخذنا النوايا السيئة كلما تحدث امامنا احد، أن نثق بالقصص والأحداث والأعذار، كما الملائكة نتلعثم كلما حاولت شفاهنا الابتعاد عن الصدق، أن نصل لتلك المرحلة التي لا بدّ أن نقلّد فيها تيجان النزاهة، ويلبسنا الحق قلادة الاخلاص، ونعبر من جسر البر نحو عالم لا تحكمه فوضى الكذب، لنكسب هبة الطهارة من هذه الآفة، فما الذي يشفع لكذبنا السابق غير قول الحقيقة، هل لا بد أن نتحول الى لعبة خشبية، فها انا قد اعترفت بكذبي، لذلك أنا لستُ بينوكيو، فمتى ستعترفون يا أيّها البينوكيون؟.