الحقيقة القاتمة خلف اسطورة {عازف المزمار}

بانوراما 2020/10/10
...

  رافائيل كوديشين 

  ترجمة: مي اسماعيل
قد تكون كتابات أدباء مثل «الأخوين غريم» و {روبرت براوننينغ} هي التي رسمت ملامح اسطورة «عازف المزمار» في الفن؛ ولكن تبين أن القصة تستند غالبا الى حادثة تاريخية حقيقية.
في كل صباح عمل على مدار السنوات الست والعشرين الماضية، يرتدي «مايكل بوير» زوجا من الجوارب ذات الألوان المتعددة وقبعة حمراء، ثم يحمل مزماره ليجوب شوارع القرون الوسطى بمدينة هاميلين ذات الستمئة ألف ساكن بمقاطعة ساكسونيا السفلى الألمانية.
يقول بوير ضاحكا: «يُخطئ الناس أحيانا حين يتصورون أنني بطل خارق أو مهرج البلاط أو روبن هود». لكن أغلب سكان المدينة يعرفون أنه يجسد شخصية «عازف المزمار»، مُعينا من قبل سلطات المدينة لانتحال شخصية الابن المفضل (على الأقل تجاريا). وهو مسؤول عن مقابلة وفود الزوار وكبار الشخصيات وتحيتهم، وقيادة جولات سياحية في ارجاء المدينة، وتجسيد الاسطورة التي تجتذب أغلب السياح.
 
مدينة تعيش الاسطورة
صمدت قصة عازف المزمار زمنا طويلا؛ فهي تنتمي لفولكلور القرون الوسطى، وقد ألهمت مقطوعة شعرية للشاعر «غوته» بعنوان» Der Rattenfänger “؛ واسطورة الاخوين غريم بعنوان “أطفال هاميلين»، وواحدة من أشهر قصائد «روبرت براوننغ» المعروفة باسم «عازف المزمار من هاميلين». ورغم أن كل كاتب حوّر قليلا في القصة؛ فإن الخطوط الاساسية بقيت ثابتة: جرى استئجار عازف المزمار لتخليص مدينة هاميلين من غزو الجرذان، فانساقت الجرذان بمنتهى الأدب خارج بوابات المدينة الى حتفها المفترض؛ مأخوذة بالنغمات الساحرة المنسابة من الناي السحري لصائد الفئران. لكن الجرذان لم تكن هي الوحيدة التي جذبتها موسيقى المزمار؛ فحينما رفضت المدينة دفع المال للعازف نظير خدماته؛ انقلب المُنقذ وصار محتالا شيطانيا يغوي أطفال المدينة لكي ينتقم منهم، إذ انساب الأولاد والبنات خلفه مسحورين بنغمات المزمار، وتبعوه خارج المدينة واختفوا ببساطة.
وبينما صمدت الحكاية، كذلك بقيت المدينة؛ التي ما زالت تبدو وكأنها خارجة من قصة خيالية. تقود جولة بوير الزوار قرب صفوف من منازل خشبية، وقصور ارستقراطيي القرن السادس عشر، المزينة بالجملونات القوطية والنقوش. ومبانٍ تشبه أنواع كيك الزفاف الملونة؛ وهي أمثلة ممتازة لعمارة عصر النهضة؛ ذات التماثيل الحجرية المخيفة ومنحوتات الخشب زاهية الالوان. لكن هذا كله ليس الا خلفية لمهنة المدينة، التي تستفيد من جميع نواحي اسطورة عازف المزمار؛ إذ تقدم المطاعم المحلية طبقا رئيسا من طبقات اللحم الرقيقة باسم «ذيل الجرذ»، وتصنع المخابز أرغفة وكعكات على شكل الفئران. أما المتحف فيقدم عرضا تمثيليا بالصوت والضوء لاسطورة عازف المزمار؛ ويؤدي ممثلون محليون مسرحية على المسرح المكشوف خلال فصل الصيف، في حين أن محال التحف تحفل بكل ما يستلهم شكل الفئران من القمصان وقطع المغناطيس والأقداح والمزامير.
لكن ما يمكن أن يبدو مجرد لهو كوميدي يخفي شيئا أعمق؛ ويُلمّح لسبب بقاء الاسطورة حية؛ ليس في هاميلين وحدها بل في الفولوكلور المعروف. فعلى نحو ما تثير تلك القصة خوفا بدائيا يكون فيه عازف المزمار نسخة من «بعبع» عالمي الوجود يستمر بمطاردتنا. فالأسرة في كل مكان تخشى فقدان أطفالها؛ وما زال الأطفال المفقودون يظهرون عبر نشرات الاخبار المسائية، قد يختفي الجميع في طرفة عين؛ فعازف المزمار في نهاية المطاف ما هو الا حاصدٌ قاتم الحضور جدا. ولكن؛ اذا كانت القصة تحرّك خوفا عاما؛ فلا يزال صداها يتردد بقوة في مدينة هاميلين؛ وقد تقدم الجولة السياحية تفسيرا لذلك. ولعل المفاجأة الحقيقية لا تقتصر على المدينة الجميلة المُحافظ عليها؛ بل اقتراح ان عازف المزمار لم يكن مجرد قصة خيالية!.
دلائل على الحدث
قد يكون ستيفنسون والأخوة غريم هم الذين شكلوا ملامح الاسطورة في الأدب؛ لكن يبدو أن تلك القصة تستند الى حادثة تاريخية حقيقية، الدليل على ذلك محفور على وجه المدينة ذاتها؛ فهناك لوحة منقوشة على الواجهة الحجرية لما يُفترض أنه منزل عازف المزمار ذاته؛ وهو مسكن خاص يعود للعام 1602، جاء فيها (ما قد يسلط الضوء على اللغز): «في السادس والعشرين من حزيران لسنة 1284 ميلادية، وهو يوم القديس جون والقديس بول، اقتاد عازف مزمار يرتدي ملابس متعددة الألوان 130 طفلا، كانوا من مواليد هاميلين، الى خارج المدينة؛ وبعد عبورهم تلة (كالفاري) اختفوا الى الأبد»، وهذه التلة تقع قرب كوبينبيرغ(تلة شديدة الانحدار ذات ارضية حجرية مرصوفة تعرف مجازا بتسمية: رؤوس الأطفال). 
هذه اللوحة ليست الدليل الوحيد؛ فهناك موضوع في سجلات المدينة يعود لسنة 1384 جاء فيه: «مرت مئة عام منذ اختفاء اطفالنا». كما وثقت النافذة ذات الزجاج الملون في كنيسة القديس نيكولاس (التي دمرت خلال القرن السابع عشر لكنها موصوفة في سجلات سابقة) بأنها لوحة عازف المزمار وهو يقود بضعة أطفال بيض كالاشباح.
هناك أيضا مخطوطة «لونبورغ» من القرن الخامس عشر؛ وهي توثيق ألماني مبكر للحادثة، ومعها خمس مقطوعات تاريخية (بعضها باللاتينية واخرى بالالمانية) تشير جميعها لقصة مشابهة عن اختفاء 130 طفلا يوم 26 حزيران سنة 1284، بعدما ساروا خلف عازف مزمار الى مكان يسمى كالفاري أو كوبين. وهكذا اصبح عازف المزمار شعارا للغز تاريخي عميق، وأكثر من مجرد قصة خيالية؛ فما الذي حدث لأطفال هاميلين المفقودين؟
يقود صائد الفئران الفاتن الآن جوقا جديدا بالكامل من المتابعين المنبهرين؛ هم مؤرخون يأخذ كل منهم دوره لحل التساؤل عما حدث فعلا ذلك اليوم في هاميلين. هناك عدد من النظريات؛ كما ترى «ويبك ريمر» منسقة مشروع معرض بمتحف هاميلين يركز على الانتشار العالمي لاسطورة عازف المزمار. تقول احدى تلك النظريات الرائجة الآن:إن أطفال المدينة كانوا جزءا من هجرة الألمان الى شرق أوروبا، مدفوعين بكساد اقتصادي. تقول «ريمر»: «في هذا السيناريو يلعب عازف المزمار دور «الباحِث» أو «المُجنِّد»، مسؤولا عن تنظيم المهاجرين شرقا، ويقال إنه ارتدى ملابس ملونة وعزف الموسيقى لاجتذاب المهاجرين المحتملين».
بينما يعتقد بعض المؤرخين أن الاطفال هاجروا الى ترانسلفانيا؛ تبقى نظرية عالم اللغة الألماني «يورغن أودولف» هي الأكثر قبولا، كما تقول ريمر: «يفترض أودولف أن المناطق التي هاجروا اليها على الأرجح تقع حول برلين في ألمانيا الشرقية الآن، ويدعم نظريته بدلائل الأسماء من تلك المناطق». اكتشف أودولف أن أسماء الأسر الشائعة في هاميلين خلال تلك الحقبة تظهر بتكرار مفاجئ في مناطق «اوكرمارك -Uckermark”و” برغنتز-Prignitz” قرب برلين؛ وهي ذاتها التي ثبتها مركز للمهاجرين. كما تتعزز النظرية بدلائل أن تلك المنطقة (التي تحررت حديثا من الدنماركيين) كانت جاهزة للاستعمار من قبل الألمان. هناك أيضا نظريات أكثر خيالية؛ إذ يرى بعض المؤرخين أن الاسطورة تعود لحملة الأطفال الصليبية في القرن الثالث عشر، وهي جزء من موجة حملات القرون الوسطى الهادفة للسيطرة على الأراضي المقدسة. بينما يرى آخرون أن الاطفال ذهبوا ضحية الطاعون الأسود؛ رغم أن التواريخ لا تتطابق هنا.
 
نظرية «جنون الرقص»
تشير النظرية الأكثر غرابة الى ظاهرة القرون الوسطى المسماة «جنون الرقص»؛ المدفوعة بسلسلة من الأوبئة والكوارث الطبيعية. جرى توثيق وباء الرقص (المعروف أحيانا برقصة سانت فيتوس) بظهوره في مناطق وسط أوروبا منذ بدايات القرن الحادي عشر، كنوع من الهستيريا الجماعية التي قد تنتشر من الأفراد الى المجموعات الكبيرة. يسوق الجميع دافع لا يُقاوم للرقص بصورة محمومة، أحيانا لأسابيع كاملة؛ فيقفزون ويغنون ويهذون الى حد الانهيار؛ وصولا الى الموت أحيانا؛ مثل دوامة لا تستطيع التوقف عن الدوران.
في الواقع حدث تفشٍ لذلك الوباء (نمط فعلي من جنون الرقص) خلال القرن الثالث عشر جنوب مدينة هاميلين؛ حيث جرى توثيق قيام مجموعة من الشباب بالاهتزاز والرقص الهستيري وهم يغادرون المدينة، حتى وصولهم لمدينة مجاورة على بُعد عشرين كيلومترا. تؤكد الرواية أن بعض الاطفال ماتوا بعد مجهودهم العنيف ذاك، بينما أصيب الناجون بارتجاف مزمن. ولعل منطقة هاميلين كانت قد شهدت وباء مماثلا؛ رقصا على انغام مجازية لعازف المزمار. لكن جميع تلك النظريات أهملت عاملا حاسما في لغز هاميلين؛ بحسبما تراه ريمر: «هذه النظريات لا تفسر تعيين التاريخ المحدد لخسارة الأطفال؛ فهل حدث شيء ما؛ تكتم عليه مسؤولو المدينة؟ شيءٌ مأساوي انتقل الحديث عنه روايةً لزمن طويل في ذاكرة المدينة الجمعية؛ عبر عقود وقرون؟».
سجلت الوثائق تاريخ 26 حزيران موعدا لاختفاء الأطفال، والتاكيد على اتباع الشباب للعازف الى «كوبين»؛ التي تعرف عموما «بالتلة». تستطرد ريمر قائلة: «هناك مناطق في ألمانيا يجري فيها الاحتفال خلال منتصف فصل الصيف باشعال النيران على التلال». هذا يقودنا لقراءة مرعبة للاسطورة؛ فلعل العازف (متمثلا بالساحر الوثني «الشامان») قاد شباب هاميلين الى احتفالات منتصف الصيف. ولعل الجماعات المتدينة المحلية؛ أملا بتعزيز انتشار الايمان في المنطقة؛ عمدت الى ترصد وقتل مجموعات الشباب. وفي نظرية أقل دموية: لعل الأطفال قد جرى نقلهم الى أديرة محلية قريبة.. اذا كانت الرواية تُلمّح لمأساة تاريخية محتملة؛ فانها تقدم أيضا خلاصا فنيا؛ كما ترى ريمر: «قصة عازف المزمار معروفة (على حد علمنا) في 42 بلدا وبثلاثين لغة.. وربما اكثر. وقد ظهرت عبر فنون وآداب وموسيقى عالمية. العازف تراث مشترك لأناس كثيرين، وهذا رابط حضاري».. ولعله في النهاية لم يمزق مجتمعا ما بقدر ما ربط مجتمعا أكبر ببعضه.
 
• بي بي سي البريطانية