مجزرة ثياروي.. حقيقة عمرها 76 عاماً

بانوراما 2020/10/14
...

دانييل باكيوت
ترجمة: بهاء سلمان
إنه السبيل الوحيد لإزالة الغبار عن اسم أسرته، وإثبات حقيقة طمرت منذ أمد بعيد الى العالم: مئات من الجنود الذين قاتلوا من أجل تحرير فرنسا في الحرب العالمية الثانية تم قتلهم عند عودتهم ذات صباح، تنفيذا لأوامر قادة التحرير الفرنسيين.
“هؤلاء الرجال البيض البشرة تخلصوا من السود وكأنهم لا يمثلون شيئا بالمرة،” هكذا يقول بيرام سنغور، 82 عاما، وهو من بين آخر أبناء الضحايا الباقين على قيد الحياة، الذين كانوا ينتمون الى قوة تعرف بالرماة السنغاليين المهرة، رغم أن الكثيرين قدموا من مستعمرات فرنسية أخرى، مثل مالي وغينيا وبوركينا فاسو وساحل العاج.
حاليا، يأمل سنغور أن تعمل تصفية الحسابات العالمية لمسألة الأعمال الوحشية العنصرية، السابقة والحالية، على المساعدة برفع الغموض عن هذا الإرث. وتؤكد المصادر الفرنسية الى أنها دفنت 70 مقاتلا ماهرا قرب العاصمة السنغالية، لكن المؤرخين من كلا القارتين يقولون إن من المرجح زيادة العدد عن 300، كما أنهم، في حقيقة الأمر، قد وضعوا معاً داخل قبر جماعي.
يقول بيرام سنغور، بغضب شديد: “علينا أن نخرج تلك الجثث، وينبغي عدّهم، كما ينبغي علينا دفنهم فرادى مثل بقية البشر، لكي نكرّم إنسانيتهم بشكل حقيقي”. في جميع أنحاء العالم، انفتحت بشكل هائل فصول مؤلمة من التاريخ إثر مقتل جورج فلويد، وتجددت مشاعر الغضب هذا الصيف لما يتعلّق بالرموز والأنظمة القديمة للظلم؛ وحطّمت نصب داخل الولايات المتحدة وبريطانيا وبلجيكا ونيوزيلندا، وقدّمت شركات وجامعات وشخصيات عامة عبر العالم اعتذارات عن سوء سلوكها.
 
طلبات بلا ردود
وتعد العلاقة بين فرنسا والسنغال، العائدة الى ثلاثة قرون خلت، أرضاً خصبة لمثل هذا التجويف الأخلاقي، بحسب الناشطين؛ فالأرض الواقعة غرب أفريقيا كانت تعد مركز القيادة الاقليمي لأوروبا لغاية نيلها الاستقلال سنة 1960، وتردد زعماء كلا الطرفين في استقصاء الذاكرة الجمعية بشكل عميق جدا.
على مدى سنوات طويلة، قدّم سنغور، الذي كان نفسه محاربا قديما من أيام الحقبة الاستعمارية، طلبا لرئيسي فرنسا والسنغال لنبش قبور القتلى، مشددا على تصحيح سجل الأحداث لمرة واحدة وإلى الأبد. اليوم، لا يوجد هناك من يجادل في قصة بدأت مع مجموعة من جنود غرب أفريقيا العائدين لتوّهم من الجبهات، مطالبين بأجورهم. وكان هؤلاء قد ذهبوا أربع سنوات بلا وعود بأية مبالغ، وواجهوا السلطات الاستعمارية لحكومة شارل ديغول المؤقتة في بلدة سنغالية كانت بمثابة حامية عسكرية، اسمها “ثياروي”، التي كانت من المفترض أن تمثل آخر محطة للتوقف قبل التوجه الى الديار؛ وهناك سارت الأمور بشكل غامض.
أبلغ أحد الجنرالات عن انتفاضة صاحبتها أعمال عنف داخل ثياروي في الأول من كانون الأول 1944، مدوّنا حينها أن قتل رفاقهم في السلاح كان يمثل “طعنة مؤلمة لا بدّ منها في مكان متقرّح داخل الجسد”. وينفي الباحثون السنغاليون مصداقية هذا الكلام، فالجنود الأفارقة كانوا قد جرّدوا من أسلحتهم، واحتجوا وحاصروا جنرالا، لكنهم تركوه سالما من دون إلحاق أي أذى به، ليرد الفرنسيون بفتح نيران المدافع الرشاشة. يقول مور نادو، رئيس المجلس السنغالي للتاريخ العسكري :”مع تحقيق النصر، تم محوهم بسرعة، فبدلا من تقديم المال والطعام لهم.. تلقوا الرصاص”.
 
إقرار منقوص
ولم يرد مكتب الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون على طلب التعليق على الموضوع. وبعد سبعة عقود، أقرّت فرنسا بحصول شيء يثير الفزع عن طريق الخطأ، عندما أقدم فرانسوا هولاند، رئيس فرنسا السابق، على تسليم الإرشيف الفرنسي الخاص بثياوري الى الرئيس السنغالي ماكي سال. وقال هولاند لدى زيارته مقبرة البلدة العسكرية سنة 2014: “أريد أن أرفع حالة الظلم وأحيي ذكرى الرجال الذين ارتدوا الزي الرسمي لفرنسا، والذين صوّب الفرنسيون بنادقهم عليهم، لأن هذا هو ما حصل”. ومع ذكره للعدد الأدنى من القتلى، أغاظ الرئيس الفرنسي مشاعر بيرام سنغور والناشطين السنغاليين المطالبين من فرنسا بأن تكون أكثر صراحة وتدعو الحادثة بالمجزرة، وليست تمرّدا، وبحث مصير الرماة المهرة المجهولي المصير.
ويبقى المؤرخون عاجزين عن تعقب أثر نحو 350 رجلا كانت هناك معلومات مؤكدة بوجودهم في الحامية، بحسب نادو ومسؤولين سنغاليين آخرين، واعتبارهم من الضحايا المحتملين. وتمت عرقلة طريق الوصول الى الحقيقة، بحسب الناشطين، بسبب تجاهل الحكومة السنغالية لطلبات الاطلاع على الارشيف الفرنسي، ولم يرد المتحدث باسم الرئاسة السنغالية على طلب للتعليق على الموضوع. 
تمَّ عدّ والد سنغور “فارا من الخدمة العسكرية”، وعلم بذلك من خلال مساعدة المؤرخ الفرنسي إميل مابون بعد اطلاعه على سجلات دائرة الإرشيف العسكري في مدينة كان الفرنسية، ما عزز طلبه الذي قدمه إلى إحدى محاكم باريس لتصحيح الحالة الى “مات من أجل فرنسا”. يقول سنغور: “لم يقدم والدي والرماة المهرة على الفرار، ولم يتخلوا عن أسرهم، فهم هنا يضمهم قبر جماعي”.
تجنيد إجباري
اعتاد الناس على إبلاغ سنغور بأنه يشبه والده مباب بالضبط، فهو ضخم البنية وقوي، ويمتلك مع ذلك عيونا رقيقة، كرجل مهيب يغمز للأطفال الرضع. كان مباب يعمل مزارعا في حقول الدخن لغاية تلقيه الأوامر سنة 1939، ليذهب لمقاتلة النازيين في فرنسا. لم يكن يعرف المدى الزمني للخدمة، ولم يكن يملك الخيار، ففرنسا ستحكم السنغال للعقدين المقبلين، والبقاء حيّا معناه إطاعة الأوامر الرسمية للاحتلال، حتى لو أفضت الى هجر زوجتك وطفلك الصغير للقتال لمصلحة سيادة بلد أوروبي.
خلال الحرب، جنّدت فرنسا نحو مئتي ألف فرد من غرب أفريقيا لمصلحتها، كما يقول المؤرخون السنغاليون، وكانوا يعرفون بالرماة المهرة، وهي تسمية تحمل معها السخرية مع افتقارهم لتدريب رسمي. مات منهم ما لا يقل عن 14 ألف فرد، ووقع آخرون، وبضمنهم مباب، أسرى بيد الجنود الألمان، الذين قاموا بارسال الأسرى السود البشرة الى معسكرات العمل الشاق شمال شرقي فرنسا، لعدم تدنيس أرضهم “بالتلوّث العنصري”، بحسب مزاعمهم.
بقي مباب في الأسر الألماني لغاية سنة 1944، ثم أقلته باخرة بريطانية الى السنغال خلال تشرين الثاني من ذلك العام، مع نحو 1700 من الرماة المهرة، وفقا للسجلات البحرية الموجودة لدى مابون، المؤرخ الفرنسي؛ لتنتهي حياته بعد أقل من شهر في منطقة لا تبعد عن منزله سوى مئة ميل.
ومع تحضير الضباط الفرنسيين الكبار لتقاريرهم لمركز القيادة في باريس، كان الناجون، وهم 34 فردا تم سجنهم لاحقا بتهم التمرّد، يتحدثون عن مجزرة وقعت في حامية ثياروي، مبلغين الناس أن الجنود الفرنسيين قد فتحوا النار على الأفارقة العزّل بعد التعداد العسكري المعتاد يوميا عند التاسعة والنصف صباحا. لم يبدو العنف وكأنه رد مستعجل لتهديد مميت. وكشف طاهي أحد الضباط الفرنسيين للباحثين أن زوجة قائد الحامية للطباخ السنغالي حذرته من خطر القتل، وأمرته بالاختباء في أحد الأقبية.
 
يتيم مظلوم
يتذكر سنغور، الذي كان حينها بعمر ست سنين، إبلاغ جدته له وهي غارقة بالدموع بقتل الفرنسيين لوالده. ولا يتذكر الولد وجه أبيه، لكنه عرفه من قصص الأسرة. وتمزقت الأسرة من بعد وفاة مباب، فقد تزوّجت امرأته مرة أخرى وأرسلت ابنها للعيش مع أحد أعمامه، لتستاء زوجة هذا العم من هذا الأمر لأنها كان عليها الاعتناء بطفل آخر. ولأن سنغور كان يعد ابنا لـ”فار من الخدمة”، لم يتلقَ أية مساعدات مالية من الدولة.
يقول سنغور (الذي أصبح مسنّا) من منزله بريف منطقة دياكاو، حيث أقامت أسرته على مدى أجيال: “لقد صرت يتيما، وما أتذكره من طفولتي هو الألم”. ويتذكر عناءه للتخلّص من ذلك الألم، ولم تبعده حقول الدخن كثيرا، ووالده لم يترك أي إرث ينتفع منه، ومع معرفته لوضعه، إلتحق بقوة قلبت حياته: جيش الحقبة الاستعمارية.
كان هذا هو المسلك الوحيد سنة 1958 للانضمام الى قسم الشرطة، التي كانت تدفع بعضا من أفضل الرواتب في البلدة، ومن ثم فقد تحمّل بصمت ثقافة العزل العنصري، حيث هناك مطبخ للسود وآخر للبيض. “لم نكن نملك الحقوق نفسها، فقد كنا تابعين”. لم يغب والده عن مخيّلته عندما نالت السنغال استقلالها سنة 1960، ليبحث بهدوء عن أجوبة مع ترقيته لرتبة ضابط شرطة، وزواجه وتشييده دارا لأطفاله في الريف، مباشرة أسفل طريق قريب من المكان الذي نشأ فيه والده.
  
تضاؤل الأمل
حاليا، إبصار سنغور يضعف، ليعتمد على ابنه “سيدينا”، البالغ من العمر 25 سنة، ليروي له أخبار التواصل الاجتماعي الخاصة بالاحتجاجات المتحدية لحكومة بلاده في العاصمة داكار، والجهات المنظمة لتلك الحركات. ويقول سنغور أنه لا يملك أملا كبيرا، فمسألة العنصرية تعرض طوال الوقت على التلفزيون، و”هم يتحدثون عن ضحايا العنصرية!”.
على مدى سنين، ضغط سنغور على السلطات لإزالة التسمية المخزية لمباب، وتم فعل ذلك، واضافة عبارة “مات من أجل فرنسا” الى ملفه. لم تفعل السلطات ذلك، متحججة بعدم وجود شهادة وفاة، وغياب دليل يثبت عدم مشاركته في التمرّد. وطالب سنغور بالمال الذي كان من المفترض تسليمه لوالده سنة 1944، ولا شيء الى الآن؛ وأسس رابطة لقدامى المحاربين والباحثين المطالبين بنبش القبور، من دون الوصول الى نتيجة.
تملك السنغال السلطة لفعل ذلك، غير أن الناشطين يشيرون لرغبة الحكومة بمنع توتر العلاقات مع فرنسا، كما ان نقص الأموال ربما يسهم أيضا بإعاقة التقدّم بالأمر، وخصوصا في وقت جائحة كورونا. “ينبغي التعرّف على الجثث وتسليمها لذويها، إن كانوا لا يزالون على قيد الحياة،” كما يقول بابكر غاي، رئيس أركان الجيش السنغالي السابق. أما مابون، الذي قضى ثماني سنوات في جامعة ساوثرن بريتاني باحثا في شؤون القتلى، فيقول: “كانت القصة ستكون مختلفة تماما لو كانوا من البيض، وكانت ستنبش قبور مباب والآخرين منذ أمد بعيد”.
تقع مقبرة ثياروي العسكرية على طريق مروري يعج بحركة السيارات. وسقط أحد الجدران الكونكريتية للمقبرة، ويبحث المشرف على المكان عن متعهّد لاصلاحه مقابل مبلغ زهيد. وتتناثر الأعشاب بين القبور، وتبدو بلاطات شواهد القبور البيضاء خالية من أية كتابات.
 
جهود لنشر الحقيقة
يحاول سنغور قطع رحلة الثلاث ساعات مشيا على الأقدام مرة واحدة على الأقل سنويا، عادة عندما يكون لديه مشاغل يقضيها في داكار، ليلتقي الأشخاص الذين يشاركونه مهمته. كان من بينهم مخرج أفلام، توفي مؤخرا، والذي خضع فيلمه عن ثياروي للرقابة في السنغال، وتم حظره لسنين داخل فرنسا. وأطلق السياسيون يوما كعطلة لذكرى الرماة المهرة، لكنه لم يلقَ اهتماما كبيرا.
مؤخرا، ظهر فنانون رسموا على الجدران جداريات للضحايا، كما أضاف معلمون بشكل غير رسمي مأساة ثياروي الى مناهجهم التعليمية، أما الجنود المكلفون بحراسة إحدى المتاحف، فقد أبرزوا صورا وملابس عسكرية قديمة. لكن، في هذه السنة منعت جائحة كورونا سنغور من اجراء زيارته، وكانت آخر مرة جاء فيها مع ابنه خلال تشرين الأول الماضي للصلاة وتحديد مكان دفن والده تحت إحدى أشجار الباوباب. ويختلف المؤرخون حول احتمالية وجود مقابر جماعية أخرى في المكان نفسه.
في منزله، أخرج سنغور آخر رسالة كتبها العام الماضي للرئيسين السنغالي والفرنسي، وربما ستكون الأخيرة، لكن الواجب غير المنفذ يؤرقه، بيد أن طاقته تتضاءل، وهو بأمس الحاجة لإجراء جراحة لعينه: “لا أظن أنني سأفعل شيئا آخر مجددا”. وليس بمقدور الرجل المسن حضور جلسة المحكمة في باريس، فهو لا يملك المال، وحتى لو امتلكه، فالقيود المفروضة على السفر تلزمه الحصول على موافقات خاصة لدخول فرنسا. أخبره ابنه بعدم القلق، فقد وعده بمواصلة القتال بمعركة أسرة سنغور من خلال حاسوبه الشخصي.
وبغض النظر عما تؤول اليه نتيجة المحكمة، أو ما تقرره الحكومة السنغالية، فسيعلم أولاد أحفاد مباب قصته.