ميســـــــــــان.. موطئ صناعة {البلام}
ريبورتاج
2020/10/17
+A
-A
سعد حسن
تشهد صناعة الزوارق في محافظة ميسان جنوب العرق ازدهاراً كبيراً، بعد حملة إعادة المياه الى الأهوار في جنوب العراق بعد أكثر من أربعين عاماً من حملة تجفيف الأهوار، إبان تسعينيات القرن الماضي، وما شهدته من انتعاش في الجانب البيئي بعد العام 2003 من خلال إطلاق وزارة الموارد المائية كميات كبيرة من من المياه الى الأهوار الجنوبيَّة في العراق، ومنها أهوار ميسان الشرقية والغربية والجنوبية.
وتنعش أهوار الجنوب الجانب الاقتصادي المتعلق بالزراعة وصيد الأسماك، وتحول مناطقها الى أماكن سياحيَّة للأجانب والعراقيين، فضلا عن توفيرها استقراراً مجتمعياً.
كلكامش
تزامنت صناعة البلام منذ ظهور الحضارة البشريَّة الأولى وحاجة الإنسان العراقي الى التنقل، والصيد والزراعة، كونها من الوسائط المهمة لسكان الأهوار عبر المياه، وكانت المستنقعات حين تجفّ تتحول إلى أرضٍ صالحة للاستيطان والاستزراع.
إضافة الى أنها ذكرت في التاريخ العراقي في ملحمة كلكامش، ومنذ عصر السلالات وفي حضارة سومر وبابل، وفي ميسان التي تمتد حضارتها الى آلاف السنين قبل الميلاد، والتي حكمها ثلاثة وعشرون ملكاً.
"السوابيط"
يقول المتخصص في صناعة البلام في ميسان كريم حنظل كطامي لـ"الصباح": "توارثنا مهنة صناعة البلام أباً عن جد، ومن خلال عملي مع والدي منذ نعومة أظفاري في صناعة القوارب النهرية، وما يسمى بالبلام في العراق، وهي مهنة مارسها العديد من أبناء طائفة الصابئة المندائيين، واختصوا بها منذ زمنٍ سحيق، إذ ارتبطت صناعتها بضفاف الأنهار، لا سيما في ميسان وعلى ضفاف دجلة وبالقرب من الأنهر، ومن خلال أماكن خاصة تسمى (السوابيط) والتي تبنى عادة من القصب والبردي، لتقي العاملين في صناعة البلام من الأمطار شتاء، وحرارة الشمس صيفاً".
"بشبك المحايير"
وعن مراحل صناعة البلم يؤكد كريم كطامي "كنا نصنع البلم الكبير ما يسمى بـ(الدانك)، ويقدر طوله بنحو 15 متراً، وهو وسيلة خاصة بنقل الحمولات في نهر دجلة، خصوصاً نقل التمور في مواسمها، والحنطة والشعير وغيرها، وأعلاف الحيوانات، إذ يسع لـ (10 – 12) راكباً، ويفرش بالقصب أو بالبواري، ويقوم بدفعه شخصٌ يقف في مؤخرته بعصا تسمى (المردي)، بطول ثلاثة الى خمسة أمتار من خشب الخيزران".
يضيف: "بعدها نقوم بصناعة (الكرفات)، وهو بلم بطول 14 - 17 ذراعاً، وهو قارب أو بلم مخصص لصيد الأسماك وما يسمي (بشبك المحايير) في أهوار ميسان، وفيه يتقابل عدة أشخاص للسيطرة على شبك الصيد في النهر، وجلب كميات كبيرة من الأسماك الى الضفة الأخرى من النهر".
"الشهف"
ويردف: "هناك صناعة أخرى (للبلام) وهي بطول 8 أذرع وبواقع ستة أمتار، وتبدأ صناعة القوارب أو البلم وما يسمى بالمصطلح الشعبي في الجنوب، من خلال استخدام الخشب أو اللوح المستورد، أو من بقايا البيوت، التي تقادم عليها الزمن وأعيد بناؤها من جديد، ومن خشب الصندل وأشجار البلوط والاثل والكالبتوس وشجر السدر وهي تستخدم (لعظام البلم)، وما يسمى أضلاع البلم لصناعته، وبواقع ستة أمتار وبلم (المخيط)، وبحسب رغبة المشتري وبأطوال متفرقة من أربعة الى ستة أمتار، وبعرض ذراع اي نصف المتر، من الخشب الخاص بصناعة البلم، كونه يستخدم لصيد الطيور والأسماك في المنطقة المكتظة بالقصب والحشيش والبردي، وما يسمى (بالشهف)، كونه ينزلق بسرعة لنعومة صناعته وبارتفاع خمسة عشر سنتيمترا وبطول ستة أمتار وهو يستخدم لشخصٍ واحدٍ فقط".
وكانت صناعة البلام من الخشب، بعد أنْ تم تحويل صناعتها الى ألواحٍ من بقايا المجمدات والثلاجات القديمة، لكي تكون خفيفة، وتنزلق في المياه بسرعة فائقة وبانسيابيَّة سهلة جداً.
"السوت"
يبين حنظل "وحسب تقطيع الألواح تبدأ هذه الصناعة بالتخطيط على الأرض الترابية ومن خلال قياسات خاصة للبلم أو ما يسمى بـ(الطابك)، إذ يجب أنْ تكون الأرضية خاصة به، وثم بعد صنع (الجوابيش) وهي جسور داخلية للبلم والضلوع التي تكون مستطيلة، نقوم بعدها بصناعة (الصفاح) وهي عطف وتسمى بالأذرع، وهي بطول ذراع وكف يد او أكثر، وحسب ارتفاع البلم او الطرادة ايضا، ومن خلال ستين ضلعاً وخمسة وعشرين جابشا وميلين خاصين بصدر البلم ومؤخرته، واربعة من (السوت) او ما يسمى بالرباطات التي تحكم البلم وتضبطه، وباستخدام المسامير قياس إنج ونصف الإنج، إذ يستخدم في بعض الأحيان سلك من الحديد لجسد البلم".
ومن خلال تطور صناعة البلم تم استخدام الصفائح الحديديَّة، لسهولة استخدامها ومن أفضل الاستخدامات في صناعة البلم، هي ألواح الخشب الروسي، وبطول خمسة امتار ويتم تقطيعه حسب الحاجة لصناعة أي نوع من البلام، وحسب القياست المطلوبة من أهالي الأهوار، لاستخدامها كوسائل نقل متنوعة في بيئة الاهوار في ميسان وبعدها نستخدم الطلاء الخاص بالبلم من مادة القير التي تجلب صحيفة معدنية كبيرة يحفظ فيها وتسخن من أجل طلائه، بعدها يتم خبطه بصورة جيدة ويسمى بـ(السوبج ) أو (الشيبك)، والذي يستخدم في فتح العجائن أو الفطائر، وشيئاً فشيئاً الى أن يتم تجانس مادة القير على ظهر البلم، وبعدها يتم وضع مادة الطين المصنوعة من التراب، حتى يبرد من حافات النهر، ونقوم بإنزاله في النهر لفحصه من خلال الصناع ولأكثر من واحد، وأضيفت مؤخراً ماكنة لسحب البلام في الأنهار وذلك لعرض السرعة والوصول الى الأماكن البعيدة في مناطق الأهوار المترامية والبعيدة جداً عن المدن والقصبات".
رقائق خفيفة
وبين كريم أنَّ "هذه المهنة مارسها العديد من العراقيين في الأقضية والنواحي، لا سيما في المشرح والمجر الكبير وقلعة صالح، ولكنْ من خلال صناعة البلم الحديدي، وخاصة من مادة (البليت) أو الرقائق الخفيفة، ومن دون استخدام مادة القير لخفتها وسهولة انسيابيتها في المياه، لكنها لا توازي صناعة القارب الخشبي والمطلي بمادة القير، والذي فيه متانة كبيرة، ويستمر استخدامه لسنوات عديدة".
وأشار كريم الى أنَّ "والده في استخدم في عشرينيات القرن الماضي، القصب والبردي، والحبال والخيوط وطلاها بمادة القير، واستخدمه في تنقلاته، وقضاء حاجاته وحاجات أسرته أيضاً، لأنه كان لا يملك المواد الداخلة في صناعته من الخشب والمسامير وغيرها، وقد أثار إعجاب سكان الأهوار آنذاك، وتندروا فيه كونه شيئاً قيماً، وكان يحسب أنه من صناعة سكان الأهوار السومريين آنذاك".
أسطورة
من جانبه قال الباحث في تاريخ ميسان والأهوار جبار عبد الله الجويبراوي: "يعدُّ البلم أو ما يسمى بالزورق قديماً قدم الحضارة السومرية في بلاد الرافدين، إذ وجد في المتحف العراقي نموذج لزورق عراقي، ورد ذكر البردي والبلم والمردي العمود الذي يستخدم في دفع البلم في ملحمة كلكامش، وهو لا يختلف عن البلم او ما يسمى بالزورق الذي يستخدمه سكان الأهوار من حيث التركيب والشكل المدبب الذي يخترق فيه مياه الأهوار، وذكرت في ميثيولوجيا تاريخ ميسان ومن الأساطير التي يتداولها أبناء ميسان وسكان الأهوار ظهور(البلم الذهبي) في الليل وتشع أنواره، ويختفي في النهار في منطقة ما يسمى (احفيظ) في هور الحويزة، منطقة الكحلاء جنوب مدينة العمارة، ويعتقد سكان تلك المناطق بأنه محملٌ بالذهب بحسب قولهم، ويستطيع راكب البلم الوصول الى الأماكن المراد الوصول إليها".
"سيد سروط"
ولكل عمل يمارسه سكان الأهوار يستخدمون فيه وسيلتهم هي البلام، فهنالك الزورق الصغير (المخيط)، وهو مخصص لصيد الطيور ويسع لشخص واحد، ويستطيع صاحبه بعدم استخدامه للغرافة، للوصول الى أماكن صيده ولكي يكون هادئا، وهنالك زوارق وأبلام كبيرة، كالطرادة ويستعمل لنقل الأشخاص من مكان الى مكان آخر، ويسع الى عشرة أشخاص، وفي نقل المحاصيل الزراعية والقصب والبردي، وبلم (البركش) لنقل القصب، ويوضع فيه ماكنة او ماطور لسحبه لكونه كبيرا، والبلم يستخدم في تنقلات سكان الاهوار الى مدارسهم او أعمالهم أو الى المدن القريبة لقضاء حاجاتهم، وعمليات البيع والشراء والتبادل المنفعي، اذ تفننوا بها سكان الهوير في البصرة، واستطاعوا صناعة الزوارق الجميلة ومنها زورق "سيد السروط"، وزورق عضو مجلس الأعيان العراقي في العهد الملكي الشيخ مجيد الخليفة، ومن الصناع المعروفين، الحاج حميد، والحاج محسن، وفي العمارة بيت حنظل، وبقية الصناع في أقضية ونواحي محافظة ميسان، وفي ناحية العزيز بيت الحجاج المشهورين بصناعة البلام والزوارق، وقد تخصص في صناعة البلام او الزوارق أبناء طائفة الصابئة المندائيين.
عشق المحمداوي
ومنذ زمن سحيق وردت العديد من الاغاني والاشعار عن البلم والزوارق، كما يقول الباحث الجويبراوي نذكر منها:
كتلني الينسل بريحه بلا ماي
ومثل عود الكبر يزهي بلا ماي
طراريد العشك سارن بلا ماي
مراديهن هوة وعملن بلا بيه.
ويشير أحد الصيادين من سكنة هور ام النعاج، محمد جاسم المحمداوي الى قوله "بان البلم هو بيته الثاني الذي يأوي اليه، ومن خلال عمله سواء في صيد السمك او الطيور في موسم الخريف والشتاء هو واخوته الصيادون في عمل الطعام والمنام فيه ايضا، وقد اكتسب حب أهل سكان الاهوار، وتعلقوا به طيلة حياتهم وبعد عودة المياه الى الاهوار عادت الحياة من جديد، وعاد كل شيء قد انقضى وبدأت الحياة تدب فيه من ظهور الاسماك والقصب والبردي والعودة الى الاهوار من جديد.
تشجيع
ويذكر الخبير الاقتصادي هشام عباس الزبيدي "بعد عودة الاهوار وانغمار مساحات كبيرة جدا عادت الزراعة والروح الحقيقية للاهوار وبدأ سكانها بالعودة الى حياتهم الطبيعية، وعادت صناعة البلم من جديد بعد توقف لاكثر من خمس عشرة سنة، بعد أن شجعت وزارة الزراعة سكان الاهوار، بالعودة للسكن في مناطقهم، فقامت بوضع الملايين من الاصبعيات من أنواع عديدة من الأسماك كالبني والشبوك والكارب والسمتي وغيرها.