ترجمة : انيس الصفار
التطلع الى ما سيحمله العام 2019 للعراق يشبه المشي في بيت المرايا، فالحقائق تبقى تتلوى وتتشوه والرؤية تغيم والسير في الممر الخطأ قد ينتهي بالمرء الى الارتطام بجدار من زجاج. منذ العام 2003 كانت هناك تنبؤات بما سيحدث مع بداية كل عام جديد، ولكن قلة من تلك التنبؤات كانت دقيقة، والعام 2019 سيكون كذلك على ارجح الاحتمال. المتغيرات عديدة جداً واللاعبون الخارجيون كثار واسراب البجعات السود في انتظار المتنبئ المتهور الذي سيتعجل بالكلام. حتى الولايات المتحدة، التي عادة ما تكون اللاعب الاسهل استقراء لم يعد بالامكان توقع ما سيبدر منها.
رحلة الرئيس "دونالد ترامب" الليلية المختلسة في 26 كانون الاول أشرت أول زيارة يقوم بها للقوات الاميركية التي تخوض ما يوصف بـ"الحروب الغبية في الشرق الاوسط" لأجل لقاء دام ثلاث ساعات وتركز على سوريا دون ان يترك اثراً يذكر في تعزيز عرى المودة مع الحكومة العراقية الجديدة.
تظاهرات وعنف
إن كانت تصرفات ترامب ستترك اثراً بأي حال فإن كثيرا من المراقبين في المنطقة يعتقدون ان هذا الاثر سيتمثل بالاحساس المؤكد بأن العراق، وجوانب القلق المختلفة المتعلقة به، سوف يبقى ساحة مفتوحة امام المتنازعين. فبعد مرور عام على الهزيمة شبه الكاملة لتنظيم "داعش" في العراق لا يزال البلد يعاني من شرارات متناثرة تنفذها بقايا مقاتليه او المتعاطفين معه، قرب مطعم في تكريت حيناً او سوق شعبي في تلعفر حيناً آخر. الى جانب ذلك اخذ السخط العام المتراكم بسبب المشاكل اليومية المقيمة يؤجج اعمال احتجاج مصحوبة بالعنف في الجنوب.
في المحصلة ان العراقيين، بعد مرور 16 عاماً على ما وصف بحرب "التحرير"، قد كسبوا قدراً من الديمقراطية ولكنهم لا يزالون يعانون من نقص في الخدمات الاساسية مثل الماء الصالح للشرب والكهرباء والرعاية الصحية اللائقة وفرص العمل.
في شهر ايلول الماضي كتب الصحفي البريطاني "باتريك كوكبرن" قائلاً ان ما فعلته هزيمة "داعش" هو انها جعلت العراقيين يحولون انظارهم الى الاوضاع المتردية التي يعاني منها بلدهم: رداءة الشوارع وسوء احوال الجسور والمستشفيات والمدارس، الى جانب ازمات الكهرباء والماء في بلد ترتفع فيه درجات الحرارة صيفاً الى 50 درجة مئوية.
قد يكون هذا الرأي صحيحاً، فمن تبعات الحملة التي شنت لاقتلاع "داعش" ان البلد غدا محتاجاً الى المليارات كي يعيد اعمار بناه التحتية ويسكن مهجريه ويداوي جروح الضحايا. رغم ذلك نرى ان لا بغداد ولا المجتمع الدولي قد بادرا بعد بالتصدي لهذه التحديات الكبيرة. لا شك ان "داعش" قد هزمت، ولكن هذا لا يضع طبقاً على المائدة او ماء نظيفاً في الابار او سقفاً فوق رؤوس العراقيين.
التغيير السياسي
في واقع الامر ان المكاسب التي حققتها حركة الزعيم الشيعي مقتدى الصدر في انتخابات ايار الماضي قد اظهرت للعيان كيف ان العراقيين العاديين اليوم (على اختلاف عرقياتهم وانتماءاتهم الدينية) لم يعودوا يكترثون للأخطار المبهمة قدر اكتراثهم بتوفر العيش الكريم والصحة والفرص نحو حياة افضل.
تذكر التقارير ان القاعدة الصدرية لا تضم العراقيين الشيعة فقط، بل تشمل سنة ومسحيين ايضاً ممن خاب رجاؤهم فيما آلت اليه الاوضاع والمكتفين بتعريف انفسهم بأنهم عراقيون قبل اي شيء آخر. مطلبهم هو ان يروا تحسناً في احوالهم المعيشية واعتباراتهم الشخصية الاخرى.
الى جانب الاحتجاجات في الجنوب كانت هناك نداءات متصاعدة تدعو الى تغيير نظام الحكم في العراق من برلماني الى رئاسي، يؤكد دعاة النظام الرئاسي ان هذا النظام قادر على مواجهة التحديات، حيث أن "رجلاً قوياً" معتدلاً يتمتع بالحصافة سوف يكون بوسعه معالجة مشاكل الفساد والركود البيروقراطي وتردي الخدمات الاساسية وتخلخل الأمن.
حدثنا مصدر وثيق الصلة بالحكومة فقال: "الجميع يتحدثون بعناوين فخمة .. الديمقراطية .. الابتكار .. حرية الصحافة .. وغير ذلك، ولكنك لن تجد احداً على استعداد ولو لمحاولة التصدي لنظام الاقطاعيات الذي يمثل الارضية الفعلية لكل ما يحول دون قيام مجتمع مدني حقيقي."
اسباب للأمل والتفاؤل
بيد ان فسحة الأمل تبقى واسعة. فبعد مرور 16 عاماً على الغزو الذي قادته الولايات المتحدة لإزاحة متجبر لم ينتخبه احد تقدم الى صناديق الانتخاب جيل جديد، جيل لم يعرف خلال الشطر الاكبر من حياته شيئاً غير الحروب والفقر وعدم الامان، بيد انه متصل بالعالم كله عبر وسائل التواصل الاجتماعي. ابناء هذا الجيل يدركون جيداً حقوقهم كمواطنين ويعرفون كيف تبدو صورة الديمقراطية حين تفعل فعلها وتؤتي ثمارها. لهذا السبب يمكن النظر الى الاحتجاجات والتظاهرات التي خرجت على انها تمخضات ميلاد مجتمع مدني قادر على فرض الضوابط على حكومته.
كان من النقاط الشاخصة في العام الماضي ظهور لاعبين جدد اخذوا المقاليد من يد الحرس القديم الذي تخطى عمره السبعين عاماً والذي بقي مهيمناً على المشهد في العراق لعقود، حتى وهو في الخارج. اما الصدر فلا يتعدى عمره 44 عاماً.
في شمال العراق ايضاً رأى الناخبون الكرد تناقصاً في الوجوه القديمة ازاء المزيد من وجوه الابناء وابناء الاخوة والاخوات، ومن اولئك قوباد طالباني، الذي يبلغ من العمر 41 عاماً، ومسرور بارزاني، 49 عاماً، ونجيرفان بارزاني، 52 عاماً. كان هناك ايضاً حزب حديث الظهور يحمل اسماً مناسباً هو "الجيل الجديد" يرأسه شسوار عبد الواحد قادر الذي انتقل من عالم الاعمال الى السياسة.
بالطبع لن يكون من الدقة عند تأمل التحديات التي قد يواجهها العراق خلال العام 2019 التهوين من التأثير الايراني، لاسيما في ضوء الانسحاب الاميركي المتوقع من المشهد.
ما الذي يخبئه المستقبل؟
قبل الغزو الاميركي للعراق في العام 2003 بوقت قصير زرت مدينة اربيل في شمال العراق حيث كانت الاجواء مفعمة بالاثارة والترقب، وفي السوق المزدحم تحدثت الى بائع خضار فقال لي: "آمل ان يطاح بصدام، عندئذ قد تلتفت الحكومة المحلية قليلاً الى محنتنا".
التغير الذي شهده العراق كان منقلباً بكل ابعاد الكلمة، في معايير الحياة والفرص الاقتصادية ونظام الحكم والتأثيرات الخارجية، بل حتى في تغير الاحساس بمعنى ان يكون المرء "عراقياً".
لقد انقلب حال العراق رأساً على عقب مرات عديدة على مدى السنوات الست عشرة الاخيرة، والسنة الحالية سوف تكون سنة اخرى من تلك، سنوات انعدام الاستقرار والقلق.
اي محاولة للتنبؤ بدقة كيف سيكون وضع العراق خلال العام 2019 ستكون حماقة خرقاء، واني لأتساءل مع نفسي، ترى ما الذي سيقوله بائع الخضار ذاك اليوم بعد مرور ست عشرة سنة.
تانيا غاودسوزيان/عن موقع "مدل ايست آي" الاخباري