خنادق قديمة وطائرات مسيرة في ناغورنو كاراباخ

بانوراما 2020/10/20
...

بيثان ماكيرنان
ترجمة: خالد قاسم
يستمر القتال على اقليم ناغورنو كاراباخ لفترات متقطعة منذ قرن من الزمان، وتصاعد عندما تفكك الاتحاد السوفييتي حتى وقف اطلاق النار عام 1994، لكن الأعمال العدائية اشتعلت مجدداً ويعاني المدنيون مرة أخرى من عواقبها.
يختبئ سيرغي هوفنيسيان وثلاثة من جيرانه داخل قبو تخزين تحت محل البقالة العائد اليهم في بلدة ستيباناكرت الجبلية بقلب الإقليم المتنازع عليه بين أذربيجان وأرمينيا، وكلما توقف القصف الجوي والمدفعي يصعدون السلالم لجلب مؤونة تكفيهم أثناء الحصار المفروض على المنطقة.
هرب نحو 70 ألف أرميني من الإقليم بسبب الصواريخ الأذرية سيئة التوجيه والطائرات المسيرة، والتي ضربت أحياء مدنية أكثر من البنى التحتية والقواعد العسكرية، ويقول من بقي هناك، معظمهم من كبار السن مثل سيرغي وأصدقائه، وأنهم يفضلون الموت على تسليم موطنهم الى أذربيجان.
تصل تحديثات القتال عبر رسائل واتساب ونشرات الأخبار الإذاعية، أما الأسقفية، فلا تزال تجري قداساً، لمن يجرؤ على الذهاب الى الكنيسة للصلاة واشعال الشموع، وعندما تنطلق صفارات الإنذار محذرة من دخول مقاتلات أذرية المجال الجوي الأرميني، فعلى المدنيين ايجاد ملاذ آمن خلال ثلاث دقائق تقريباً، وفي بعض الأحيان عندما لا تعمل الدفاعات الجوية روسية الصنع، فلا ينطلق تحذير على الاطلاق.
حشدّت الجاليات الأرمينية الكبيرة لمساعدة دولتهم الصغيرة في معركتها ضد أذربيجان، ووصل متطوعون من فرنسا ولبنان والولايات المتحدة بالطائرات، وكانت حرب التسعينيات قد شهدت انضمام مرتزقة روس وسلافيين وأوسيتيين اليهم، أما باكو فقد تلقت مساعدة اليمين المتطرف التركي،  فضلا عن رجال من الشيشان وأفغانستان.
يستذكر الرجال المحشورون داخل قبو المتجر المرة الأولى التي شاهدوا فيها “المجاهدين” في حربهم ضد أذربيجان خلال التسعينيات. ورغم هدنة 1994 التي أسفرت عن انتصار أرميني، لكن الطرفين يحملان مظالم مشروعة وعميقة.
 
تاريخ متجدد
بالنسبة لأرمينيا، وبعد معاناتها من التطهير العرقي الأذري خلال ثمانينيات القرن الماضي إضافة الى التطهير التركي قبل نحو مئة سنة، فهي ترفض التخلي عن المقاطعات الأذرية السبع الأخرى التي تحتلها تاركة 700 ألف أذري عاجزين عن العودة الى موطنهم الأصلي.
أما الحرب الحالية فهي مزيج من القديم والجديد، فالمجندون المجهزون ببنادق كلاشنكوف يواجه بعضهم بعضا داخل خنادق ذات طراز الحرب العالمية الأولى، وهي قريبة جدا في بعض المناطق، مما يمكنهم من الحديث مع جنود العدو، أما الطائرات المسيرة الحديثة والصواريخ بعيدة المدى فتحلق عاليا.
يبرز المرتزقة كل مرة في هذا النزاع على خلفية تغيير النظام العالمي، لكن مع وصول المقاتلين السوريين المدعومين من تركيا الى الجانب الأذري من الجبهة وطائرات مسيرة أجنبية الصنع تقصف أهدافا من الجو تغير شكل الصراع، فينظر الى ناغورنو كاراباخ بعد سوريا وليبيا بوصفها أكبر تهديد يشهد تشابك موسكو وأنقرة في معركة التفوق الجيوسياسي. فمن جهة، هذا النزاع الجديد يوصف بأنه تاريخ يعيد نفسه، ومن جهة أخرى يشير الى ما ستبدو عليه الحرب المستقبلية.
تعد المعارك الحالية أسوأ انتشار للأعمال العدائية في القوقاز منذ تفكك الاتحاد السوفييتي، وأشعلها هجوم مفاجئ من باكو التي زاد احباطها من عملية السلام العاجزة والتعليقات الاستفزازية من رئيس الوزراء الأرميني الجديد نيكول باشينيان المنتخب بعد ثورة البلاد السلمية عام 2018.
وقد منحت الثروة النفطية أذربيجان تفوقا عسكريا مؤكدا على معدات أرمينيا العتيقة من العهد السوفييتي، كما تتمتع باكو للمرة الأولى بدعم صريح من تركيا المرتبطة معها بروابط ثقافية واقتصادية وثيقة، لكن موقف أنقرة الحازم يقابله موقف أقل صرامة من موسكو التي تبيع السلاح لكلا جانبي الصراع وتبدو حذرة من الايفاء باتفاقها العسكري مع يريفان بحالة امتداد القتال خارج ناغورنو كاراباخ الى داخل أرمينيا. 
 
تأييد شعبي
تكاليف الحرب عميقة لدرجة لا يمكن استمرارها، مع أن كلا البلدين لن يعترفا بالمدى الحقيقي لضحاياهما. ورغم الخطابات الرنانة من مسؤولي يريفان عن الحرية أو الموت، لكن أرمينيا تتحمل الخسائر الأكبر بسبب طائرات مسيرة تركية واسرائيلية.
اذا صحت الأرقام الرسمية فإن عدد القتلى المدنيين في أذربيجان أكبر من نظرائهم الأرمينيين، لأن يريفان ردت بقصف المراكز الحضرية بعيدا عن ناغورنو كاراباخ، وشهدت ثاني أكبر المدن الأذرية “غانجا” مقتل عشرة مدنيين على الأقل في هجوم واحد دمر منطقة سكنية لا تضم أهدافا عسكرية 
واضحة.
ربما تكون حكومة أذربيجان فاسدة وقمعية، لكن شعبها يريد هذه الحرب، فكل خسارة تزيد المطالب الشعبية بالقصاص والعدالة. خديجة اسماعيل صحفية استقصائية أذرية سجنها الرئيس إلهام علييف بسبب تحقيقاتها، تجد نفسها في موقف غريب وتتفق مع تصرفات الحكومة حاليا.
ويبدو طرفا النزاع عاجزين عن فهم بعضهما البعض، فتعكس وسائل الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعي لديهما عالمين مختلفين، اذ أصاب النقد اللاذع والمعلومات المضللة كل مفاصل الحوار، ونشر الحساب الرسمي الأرميني بتويتر صورة قس يحمل صليبا وبندقية، أما وزارة الدفاع الأذرية، فأصدرت أغنية حماسية تدعى “النار” تعرض موسيقيين يغنون أمام دبابات.
ربما يوقف برد الشتاء الهجوم الأذري، لكن باكو لن تستسلم حتى تشعر أنها أعادت ما يكفي من الأرض لكسب اليد العليا في المحادثات، ويحتاج رعاة عملية السلام، روسيا وفرنسا وأميركا، للجلوس مباشرة مع تركيا لتحقيق تقدم سلمي، وقد تكون للأبعاد الدولية المتزايدة للصراع المحلي المشتعل تداعيات في مناطق أخرى، إذ تراقب ايران، التي لديها قومية أذرية كبيرة، الجيران المتحاربين عن كثب من وراء الكواليس، أما الوضع الحالي في ليبيا وسوريا فقد يتغير، لأن أنقرة وموسكو تحركان قطع الشطرنج الخاصة بهما.