شخصيَّة فريدة

الصفحة الاخيرة 2020/10/27
...

حسن العاني 
النصف الأول من ستينيات القرن الماضي، والعراق عامة وبغداد خاصة يضعان خطوة واثقة نحو حياة جديدة من التحضر يمكن تلمسها بوضوح، سواء في ازدهار الابداع الثقافي على مستوى الآداب والفنون، أم على مستوى انتعاش الحوارات الفكرية والفلسفية والسياسية، حتى باتت مقاهي شارع الرشيد من باب المعظم إلى نهاية كورنيش(أبو نواس) أقرب ما تكون إلى منتديات للنقاش وتبادل الآراء في أجواء تسودها الحرية على الرغم من تباين الرؤى والطروحات، وانتقل هذا الانتعاش الى معظم المقاهي الشعبية، اعني مقاهي الطرف، حتى بات من الطبيعي أن نرى منضدة للنرد أو الدومينو والى جانبها منضدة للحوار والجدل.. وكان من معالم تلك الحياة الجديدة بلوغ فن العمارة مرحلة غير مسبوقة من التجديد، في ما كان للسينما و المسرح والمعارض الفنية حضور لافت للنظر، يقابله حضور مماثل للمرأة السافرة في الشارع ودوائر الدولة 
والجامعة.. 
إذا لم تخذلني الذاكرة كنا مجموعة (شباب) تقع أعمارنا مابين (19 - 22) سنة، نلتقي مساء كل يوم في مقهى الطرف، وتمتد سهرتنا في العادة الى وقت متأخر من الليل، ومرة أخرى أقول، اذا لم تخذلني الذاكرة، كان ذلك في السنوات الثلاث الاولى من عقد الستينيات على وجه التحديد، لأنه مع إنقلاب شباط 1963 تغيرت الصورة... على أية حال في تلك السنوات كان 
يرتاد المقهى شاب من شباب الطرف، يكبرنا بسبع سنوات تقريباً، وهو الوحيد من (مجموعتنا) الذي يحمل شهادة جامعية في مجال الشريعة، والوحيد كذلك الذي يعمل 
مدرساً..
رافع الشمري - هذا هو اسمه - شخصية فريدة من نوعها، يجمع من المواصفات ما يصعب الجمع بينها، ملتزم بفروض الدين صوماً وصلاة وسلوكاً، وقارئ نهم إلى الحد الذي يثير حسدنا، وثقافته في الوجودية والماركسية والقومية والطروحات الفكرية والفلسفية على تنوعها-يتحدث عنها باحترام ولغة مهذبة- لا تقل عن ثقافته في ميدان تخصصه.. الشريعة والفقه والحلال والحرام.. ومع ذلك فانه يتحلى بالدعابة والمزاح وروح النكتة ما يجعله سيد الجلسة... الشمري أبعد ما يكون عن التعصب الديني، وأكثر بُعداً عن التعصب المذهبي.. في الأماسي التي يحضر فيها الى المقهى، كنا نترك هرج الدومينو وصخبها متمتعين بأحاديثه وأجواء الضحك والمرح التي يثيرها من حوله ... تحضرني الآن احدى حكاياته وهي ان امرأة جاءت الى رجل معمم وفي يدها رسالة، وطلبت منه قراءتها، ولكن الرجل كان أُمياً، فاعتذر لها بأنه لا يحسن القراءة والكتابة، انزعجت المرأة وقالت له [ليش لعد لابس عمامة اذا ما تعرف تقره؟!] فما كان منه إلا أنْ خلع عمامته ووضعها فوق رأسها وقال لها [تفضلي يمه إقري.. هاي العمامه فوق 
راسك !!] 
وأذكر انه كان يتحدث ذات مرة عن السفور وينصحنا بعدم تشجيع النساء في منازلنا عليه.. فقال له أحدنا [ستاد رافع ... لعد ليش خاله فضيله سافرة؟!] وفضيلة هي زوجته، امرأة طيبة وغاية في الأدب والجمال وتعمل موظفة في وزارة التربية، فما كان منه الا أن ردّ عليه في الحال [ نزول على فضيله.. حلوه والسفور كلش يناسبها].. وارتج المقهى 
من الضحك..