«عنف مفرط».. حين يموت معتقل أمام الكاميرات

بانوراما 2020/10/30
...

 لندن: بي بي سي
قبل وقت طويل من وفاة جورج فلويد والاحتجاجات التي عمت الولايات المتحدة الأميركية وبعض العواصم العالمية في سياق ما عرف بحركة «حياة السود مهمة»، كان الناشط والمخرج السينمائي البريطاني، كين فَيرَو، منشغلا بمشروع لتوثيق حالات الوفاة خلال عمليات الاعتقال والدهم التي تقوم بها أجهزة تنفيذ القانون، والتي تطال في الغالب السود والأقليات الأخرى.
فقبل أكثر من 19 عاماً، أثار فَيرَو هذه الموضوع في فيلمه المثير للجدل «لا عدالة»، الذي حظي باهتمام نقدي كبير وبعروض كثيرة في العديد من المهرجانات السينمائية أو الفعاليات الحقوقية. وها هو اليوم يعود إليه بفيلمه الجديد «عنف مفرط»، الذي قدم عرضه الأول في مهرجان لندن السينمائي الأخير، موثقاً حالات جديدة حدثت بعد عرض فيلمه السابق، ومقدماً وثائق ويوميات لفعاليات احتجاجية وما يراه أدلة جديدة في هذا الملف.
ومثل هذا المشروع لم يكن، بالنسبة فَيرَو، مجرد فيلم سينمائي أو سلسلة أفلام، بل قضية نضال وحملة مستمرة كرس فنه لخدمتها وكان أحد الناشطين الفاعلين فيها، يحدوه نزوع لا يحد لكشف الحقيقة وتطبيق العدالة لمن يراهم ضحايا العنف المفرط الذي تمارسه الأجهزة الشرطية في عالمنا المعاصر. وعندما تمر فترة طويلة تطمس فيها الأدلة، تتراجع إمكانية الكشف عن الحقيقة وتزداد بالمقابل ضرورة الكفاح من أجل إحقاق العدالة.
وقد انعكس ذلك في أسلوبه السينمائي في التعامل مع مادته، فهو لا يضع فاصلاً بينه وبين موضوع السينمائي؛ بل نراه حاضرا شخصيا في كثير مشاهد فيلمه التي تبدو كأنها يوميات يوثقها بكاميرته المحمولة، سواء في التظاهرات والاحتجاجات التي صورها أو عبر مرافقته لأهالي الضحايا ومشاركته في اجتماعاتهم ونشاطاتهم ومراجعاتهم الرسمية، ضمن ما يصفه بأنها «حملة مستمرة» أو «بلانهاية»، وهي العبارة التي جعلها مثل وسم مكتوب ظل يومض في بعض مشاهد فيلمه.
واستخدم فَيرَو أسلوب الراوي، حيث يدخل على الصورة راوياً للأحداث، في صيغة رسالة يوجهها إلى ابنه وعبره للأجيال الجديدة لمواصلة الكفاح من أجل إحقاق العدالة، فنراه يقول له: «أترك هذا الفيلم لك ولجيلك بوصفه دليلاً على الكفاح».
وفي مقطع أخر يقول: «هذا الفيلم هو ذاكرة لأولئك الذين لا يمكن نسيانهم، وتحذير لأولئك الذين يرفضون رؤية» (ما حدث).
لقد نجح فَيرَو في فيلمه المثير للجدل «لا عدالة» في العام 2001 (يمكن مشاهدته على موقعي فيمو ويوتيوب) أنْ يلفت الانتباه إلى هذه القضية، في كشفه الصادم عما يراه وفيات «مشكوك فيها» في السجون ومراكز الشرطة البريطانية. إذ يحصي نحو 1000 حالة وفاة «مشكوك فيها» وقعت في السجون في الفترة بين 1969 و 1999 ويرى أن العدالة لم تتحقق بالنسبة للضحايا في معظمها.
وعلى الرغم من الاحتفاء النقدي بالفيلم وعروضه الكثيرة في مهرجانات ومناسبات سينمائية، تردد كثير من القنوات التلفزيونية، التي سبق أن عرضت أفلام فَيرَو والأفلام التي انتجها شركته «ميغرنت ميديا»، عن عرض هذا الفيلم بعد السجال القانوني الذي أحاط بالفيلم وتهديد اتحاد العاملين في أجهزة الشرطة بمقاضاة من يعرضه ويروج له.
بيد أن فيلم فَيرًو الجديد يأتي وسط زخم كبير وفره الحراك الضخم لحركة «حياة السود مهم» بكل ما أثارته من احتجاجات ومراجعات فكرية للموضوعات المتعلقة بواقع العنصرية والعلاقات العرقية. ولا يمكننا القول هنا أن فَيرًو يستثمر هذا الزخم، بل الحقيقة هي العكس، إذ سلط هذا الزخم الضوء على أهمية مشروعه وجهده الاستشرافي المميز في بحث هذه القضية.
يُكمل فَيرَو، وشريكه الدائم في كتابة الفيلمين، الروائي والكاتب، طارق محمود، ما قدماه سابقا بإضافة توثيق عدد من الحالات الجديدة وقعت في الفترة بين 1995 و 2006، وهي نماذج اختارها صانعا الفيلم ووثقاها بعناية وروية، من دون أن يسعيا لتقديم حصر شامل لكل الحالات التي وقعت في هذه الفترة، وهو خيار قد يضعف الفيلم عند عدم توفر المادة التوثيقية المناسبة لها كلها.
ويقع في قلب مشروع فَيرَو التزام أيديولوجي بقضايا الفقراء والمهمشين وربط واضح بين اختلالات القضايا الطبقية والعلاقات العرقية في مجتمعاتنا المعاصرة. فمعظم ضحاياه هم من عوائل السود والأقليات الأخرى والطبقات الفقيرة، بيد أنه لا يكتفي بتوثيق تلك الحالات بل يضعها في سياق تاريخي وعالمي أوسع، مدفوعا بنزوع لا يحد للعدالة الإنسانية، عبر ربطها بما يراه سياق أوسع من الاختلالات والأزمات التي يخلفها النظام الرأسمالي والحروب «الإمبريالية» التي تسبب فيها.
وبسبب ما يراه غياب تحقيق العدالة لضحاياه، ينثر فَيرَو كل ما وثقه من مقاطع فيلمية وما جمعه من بيانات وأدلة وبراهين بصرية أو حجج منطقية أو استعارات ومقولات فكرية واضعا إياها أمام مشاهديه الذين يجعلهم أشبه بهيئة محلفين منتظرا حكمهم النهائي ومحفزا لإحساسهم وميلهم الفطري للعدالة الإنسانية ومراهنا عليه.