الفتى اليهودي!

الصفحة الاخيرة 2020/11/02
...

جواد علي كسار 
هو هكذا دائماً، يطفح وجهه بالبشر وتعلو الابتسامة الوضيئة مُحياه، يغمر من يعاشره بالمحبة والصفاء، ورحمته المباحة عطر فوّاح ينتشر في أفق الجميع؛ هذا هو رسول الله صلى الله عليه وآله لكل من عرفه في المدينة وسواها من 
المكان.
لكنَّ شيئاً ما من وقائع يومه الثرّ الطويل هذا، جعله أكثر سروراً وعزماً وتوثباً، وهو يردّد نهاية واقعة كادت أنْ تكون موجعة: "الحمد لله الذي أنجى بي اليوم نسمة من النار" فما قصة ذلك؟ وما الذي حصل؟
كانت لرسول الله صحبة مع فتىً يهوديّ، فقد كان هذا الفتى يأتي النبي ويتردّد عليه كثيراً، حتى "استحبّه" النبي أو "استخفّه" على خلاف في اللفظ بين مصادر السيرة، وهي تضبط الواقعة. لقد
بلغ من توطّد العلاقة بين هذا الفتى والنبي، إنَّ النبي ربما أرسله في بعض حاجاته، وربما كتب له الكتاب إلى قومٍ أو
جماعة.
تذكر مصادر السيرة التي دونت الواقعة ووثقتها، أنَّ الفتى انقطع عن النبي أياماً فافتقده، ولما سأل عنه، قال له قائل: تركته في آخر أيام الدنيا، إذ يبدو أنَّ نازلاً من مرض عضال حلّ به فلم يرحمه، فهذه يد المنون تطوف في بيته، وهو مُغشىً عليه، قد انقطع كلامه، وبات جسده في خدر الموت، روحه تنازع الغمرات الأخيرة من حياته، وأهله مستسلمون ينتظرون ساعة فراقه.
قرر النبي من فوره أنْ يزور صديقه الفتى اليافع فاتّجه صوب بيت اليهودي مع لمّة من أصحابه.
عذوبة شفيفه تهادت إلى بيت الفتى من حيث لا يدري، وراحت السحب السود تتقشّع عن قلبه والمكان، وحين ناداه النبي باسمه: يا فلان، ارتعش جسد الصغير ارتعاشة لذيذة، وراحت عذوبةُ الصوت النبوي تستقر في قلبه، وبرفق وئيد طفق يُباعد بين أجفانه، ويفتح عينه متريثاً، وقال: لبيك يا أبا القاسم!
قال له النبي، قل: أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فنظر الغلام إلى أبيه كأنه يستأذنه، فلم يقل له أبوه شيئاً، فكرّر عليه رسول الله الطلب، فنظر الى والده مجدداً، فلم يقل له شيئاً، ولما كرّر النبي طلبه الثالثة، التفت الفتى إلى والده مّرة أخرى، فقال: له مخيراً: إنْ شئت فقل، وإنْ شئت فلا! فما كان من الفتى إلا أنْ بادر للقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك محمداً رسول الله، ومات مكانه.
كانت هذه الواقعة من سيرة نبينا ولا تزال تحيرني حدّ الدهشة. فلماذا لم يبادر النبي الفتى اليهودي، بدعوته إلى الإسلام قبل مرضه وفي إبان حياته؟ ولماذا انتظر إلى لحظة وفاته؟ هل كان يخشى على بيت اليهودي من أنْ يتصدّع، بين ولد مسلم وأسرة يهودية؟ هل أراد أنْ يعطينا درساً في نبذ أسلوب الدعوة التبشيريَّة القاسرة؟ لست 
أدري!
ما أعرفه أنَّ مواقف النبي ما دُثرت، وما غاضت كلماته قطّ، فهي والزمان قرينان، وما تلك الواقعة إلا لحظة من رأفة النبي الممتدة في دنيا الناس أجمعين!