ترامب وحقائق السياسة في الشرق الأوسط

بانوراما 2020/11/03
...

ديفيد هالبفينكر، بين هابارد، فرناز فصيحي 
ترجمة: مي اسماعيل 
 
اندفع الرئيس الأميركي دونالد ترامب بطريقه الخاص في الشرق الأوسط؛ بغض النظر عن الأعراف والحكمة المقبولة؛ وحصل على ما يريد في بعض الحالات، إذ نقل السفارة الاميركية في اسرائيل الى القدس؛ مخالفا القائلين أن هذا القرار سيؤجج العالم الاسلامي، وانسحب من اتفاق ايران النووي وامر بقتل قائد عسكري ايراني كبير؛ متحديا القائلين ان تلك الافعال ستقود الى الحرب، وتوسط لعقد معاهدات بين إسرائيل ودولتين عربيتين؛ مفندا رأي القائلين أن مثل تلك الاتفاقات ستحدث فقط بعد اقامة الدولة الفلسطينية. 
مرة بعد أخرى داس الرئيس ترامب بخشونة على التفكير النمطي في الشرق الأوسط؛ حيث صقلت التقلبات التركات الرئاسية السابقة أو حطمتها؛ دافعا قدما أهدافا سياسية رئيسة، أو محققا وعودا انتخابية بطرق حذر منها الخبراء لأنها قد تسبب حرائق أو تنفجر في وجهه! لكن الكوارث المتوقعة لم تتحقق؛ وليس ذلك فحسب؛ بل انتجت سياساته في أحيان عدة انجازات متميزة. ضاعفت المعاهدات العربية عدد الدول التي تقيم علاقات مع اسرائيل؛ وكانت عملية نقل السفارة (خطأ أم صوابا) خطوة تراجعت الادارات السابقة عن تنفيذها رغم الادعاء بتأييدها. لكن التحركات الجريئة غالبا ما يكون لها تبعات كبيرة؛ إذ استأنف الايرانيون مشروعهم النووي، ويعتقد الخبراء بامتلاكهم ما يكفي من المادة النووية لبناء قنبلة، واحبط مقتل الجنرال سليماني أي فرصة للتفاوض نحو معاهدة نووية أفضل مع ايران؛ حتى الوقت الحاضر على الاقل، وبدت فرصة حل الصراع الفلسطيني- الاسرائيلي أكثر بُعدا. ولم تأتِ الهدايا السياسية المقدمة لاسرائيل والسعودية بأي من التنازلات التي كانت متوقعة كونها جزءا من التفاوضات.
قارَبَ ترامب المنطقة كرجل أعمال أكثر منه سياسيا؛ مسلطا ضغوطا على الخصوم وملوحا بالحوافز الاقتصادية بالتناوب؛ ومقتنصا الفرص حيثما وجدها. وللدهشة؛ جاء هذا التعامل المبعثر بثمرات لم تأت بها مقاربات أكثر ستراتيجية ودبلوماسية؛ لكنه فشل أيضا باقناع الفلسطينيين بأن يكونوا أكثر مرونة تجاه تطلعاتهم الوطنية والايرانيين تجاه ايدولوجيتهم. وبغياب الستراتيجية الشاملة بالمنطقة، يقول المنتقدون إن ترامب اندفع بطرق قادت للهزيمة الذاتية؛ فسمحت لتركيا بمهاجمة شركاء أميركا الاكراد في سوريا وفاقمت الخلاف بين الحلفاء الخليجيين مما أعاق احتواء إيران. كذلك قاد تركيزه الطاغي لمساعدة إسرائيل والإضرار بإيران الى نهج عدم التدخل في صراعات دموية لدى كل من سوريا واليمن وليبيا؛ وكلها دول ما زالت ممزقة وخطرة. 
 
مقاربة براغماتية
يقول جاريد كوشنر(صهر ترامب وكبير مستشاريه لمنطقة الشرق الاوسط) خلال مقابلة معه أن الإدارة الأميركية سعت لخلق «استقرار أساسي» في الشرق الاوسط؛ جزئيا بالترويج لقبول إسرائيل من قبل الدول العربية؛ وهو أمر (كما يرى) سيقود لتحجيم الارهاب وتقليل المخاطر على الجنود الاميركان والكلف على دافعي الضرائب، ووضع المنطقة.. «على مسار تكون فيه مكانا أكثر استقرارا». 
ويمضي قائلا إن الرئيس «اتخذ مقاربة براغماتية لصياغة الاهداف التي نقصدها، ثم نعمل جاهدين لتحريك الامور باتجاهها». وكان الابرز بين أهداف ترامب الطموحة: هزيمة الاسلاميين المتطرفين واخضاع ايران وتحقيق ما دعاه «الصفقة النهائية» بين الفلسطينيين والاسرائيليين. خلال فترة حكمه فقدت ما تسمى بالدولة الاسلامية مناطق خلافتها ((المزعومة))، وباتت هجمات مؤيديها، التي غالبا ما أرعبت الغرب، نادرة؛ رغم أن عصابات داعش ما زال تهديدها قويا تحت الارض، تشن هجمات متكررة وقاتلة في العراق وسوريا وغرب أفريقيا، لكن أهدافا اخرى استعصت على ترامب إلى حد كبير.
رفض الفلسطينيون عموما خطة ترامب للسلام؛ ويبدو أن احتمالات إعادة بعثها شحيحة. واستأنفت ايران تخصيب اليورانيوم؛ وهذه نتيجة مباشرة لانسحاب ترامب من الاتفاق النووي؛ ما جعل ايران أقرب إلى القدرة على صنع قنبلة، أعطى الرئيس الأميركي الأولوية لمبيعات الأسلحة على حقوق الإنسان، ووقف مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بعدما قتل عملاؤه الكاتب المنشق جمال خاشقجي، وبعدما شن حربا كارثية في اليمن. وتُظهِر خطة ترامب لبيع مقاتلات من طراز F-35 الشبح لدولة الامارات بوادر انطلاق سباق تسلح إقليمي جديد، ويرى المنتقدون أنه، عبر تركيزه على ابرام الصفقات، أهمل جميع مشكلات المنطقة العديدة باستثناء المصادر الاقتصادية. تقول»لينا الخطيب» الخبيرة بشؤون المنطقة في مجموعة تشاتام هاوس للابحاث بلندن: «الشرق الاوسط ليس سوقا؛ ومحاولة حل أزماته بمعاملته بتلك الطريقة لن يجدي
 نفعا». 
 
موت خطة السلام 
والانقلاب الدبلوماسي
لعل الصراع الاسرائيلي- الفلسطيني؛ الذي يعد مسرح الفشل الاكبر لترامب؛ سيكون ايضا هو العلامة الفاشلة الأبرز والأكثر شهرة لعهد الرئيس والتي ستدوم لفترة طويلة. وبسبب لهفته للفوز، حيث لم يفز رئيس قبله؛ واجه الصراع بعجالة؛ مُفاجئا الفلسطينيين الذين خافوا من تجاهلهم. فقط ليعود عليهم بالإحباط بدرجة أكبر بعد اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية؛ وهي خطوات يُنظر إليها على نطاق واسع على أنها لا رجوع فيها. لكن لم تحدث انتفاضة فلسطينية ردا على ذلك، رغم أنها كانت متوقعة؛ غير إن الفلسطينيين قاطعوا ترامب. ودفعتهم قراراته الى مرحلة أبعد؛ إذ قطع التمويل عنهم وعمد الى اقصاء دبلوماسييهم من واشنطن واغلاق قنصلية أميركية في القدس كانت تعنى بشؤونهم. 
وحينما ظهر «منظور ترامب للسلام» الذي طال انتظاره أوائل العام الجاري؛ بدا وكأنه كُتِبَ بيد رئيس الوزراء الاسرائيلي نتنياهو؛ مزدريا المطالب الاسرائيلية الاساسية ومشجعا ضم اسرائيل لأراضي الضفة الغربية المحتلة. وقد رفضها الفلسطينيون بأشد العبارات، لكن الحديث عن الضم قاد (بانعطافة مفاجئة) الى إنقلاب دبلوماسي محتمل، فقد تعثرت عملية الضم وسط معارضة سياسية اسرائيلية؛ لكنها خلقت فرصة لعقد صفقة، فمقابل «تعليق» اسرائيل للضم، ستقوم دولة الامارات العربية المتحدة باخراج علاقاتها مع اسرائيل (التي كانت تجري في الخفاء) الى العلن، ثم تبعتها مملكة البحرين. 
يمكن القول باطار أوسع إن ما دفع الإمارات الى احضان اسرائيل كان تضاؤل التزام إدارة ترامب بالمنطقة والشكوك الجديدة عن رغبتها بارسال جهدها العسكري للانقاذ؛ خاصة بعدما رفض ترامب الانتقام من ايران في اعقاب اتهامها بمهاجمة المنشآت النفطية السعودية العام الماضي. يقول «مارتن إنديك»؛ المبعوث الاميركي السابق لمحادثات السلام وسفيرها السابق لدى اسرائيل: «كانت الامارات تبحث عمن يمكنها الاعتماد عليه..»؛ وكان الجواب الواضح: القوة العسكرية الاكبر في المنطقة. كان ذلك المقطع الاقسى على الفلسطينيين؛ إذ اعتمدت ستراتيجيتهم للضغط على اسرائيل الى حد كبير على التضامن العربي لحرمان تل ابيب من القبول الذي ترغب به. أما بالنسبة لادارة ترامب فقد تحول المنتج عديم القيمة الى ثروة تسويقية؛ كما يقول السفير الاميركي الحالي لدى اسرائيل ديفيد فريدمان: «نحن بارعون وانتهازيون للفرص». علاوة على ذلك؛ يرى كوشنر ان الاتفاقيات مع الامارات والبحرين ستجبر الفلسطينيين على القبول بالواقع في خاتمة المطاف، قائلا: «سيبقون على تصلبهم فقط طالما بقيت لديهم الموارد».. لكن القلة فقط تتوقع أن تكون خطة ترامب للسلام أساسا لأي محادثات مستقبلية؛ كما يرى «مايكل هيرزوغ»؛ مفاوض سلام مخضرم وزميل معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى: «اذا كانت لديك أطر لا تدعمها إلا اسرائيل ويرفضها الفلسطينيون والعرب والاوروبيون وغيرهم؛ فلن تصمد العملية
 طويلا». 
 
تغييرات تؤخذ بالحسبان
بغض النظر عن نتائج الانتخابات الرئاسية؛ أحدث ترامب تغييرات كبيرة في الشرق الاوسط سيكون على الادارة المقبلة الأخذ بها في نظر الاعتبار، فقد يستمر الدفع تجاه اتفاقيات التطبيع؛ لتلوح السعودية (التي أصبح موقفها أكئر دفئا تحت ادارة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان) بجائزتها الكبرى. 
ويمكن للادارة الاميركية المقبلة ان تستخدم هذا الاغراء للضغط على الدولة العبرية لتقديم تنازلات للفلسطينيين. لكن هناك قلقا اسرائيليا كبيرا عن كيفية تصرف الفلسطينيين إذا هجرهم المزيد من العرب. ولأن ايران في موقف اقتصادي صعب؛ يتساءل بعض حلفائها الاقليميين كم ستستطيع الصمود. وقد تستخدم الادارة القادمة الموقف كنقطة ضغط؛ حتى وان كانت نحو اهداف مختلفة تماما. 
قد تكون تحركات ترامب محدودة في مواقع اخرى ايضا؛ إذ وافق قادة السودان الجدد حتى الآن على تطبيع العلاقات مع اسرائيل، نتيجة للحوافز الاقتصادية المغرية؛ لأن ذلك سيتركهم «ضمن وضع أدبي مذل» لدى شعبهم؛ كما يرى «أوفير زالزبرغ» مدير قسم الشرق الأوسط بمعهد هربرت كيلمان للتحول التفاعلي للنزاعات. 
ومع ذلك؛ نال المكشوف الواضح من سياسات ترامب ثناءً من نواحي غير متوقعة.. إذ اعتبر منتقدوه أن غياب اهتمامه بنقاط الحوار التقليدية عن الديمقراطية وحقوق الانسان أدخل نوعا من الصراحة الجديدة الى نقاشات قديمة عن تعامل الولايات المتحدة مع الاوتوقراطية (=الحكم الدكتاتوري). وعن هذا تقول «إيمي هوثورن» نائبة مدير الأبحاث بمشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط: «هذا يزيل الاوهام التي أقنع البعض أنفسهم بها أننا كنا قوة للخير». وأضافت (على عجل): «كان الضرر كبيرا؛ فلن نستطيع استعادة قوتنا الناعمة سريعا». 
أما «روبرت مالي» رئيس مجموعة الأزمات الدولية ومسؤول كبير سابق بإدارة أوباما للشرق الأوسط، فيقول إن سجل ترامب يحمل على الاقل درسا واحدا لمن يخلفه: لا يتوجب أن يكون احتمال ردود الفعل من المنتقدين والحلفاء عاملا مثبطا: «قد لا يحبون ما نقوم به؛ لكن ترامب كشف لنا أنه اذا كان الامر لصالحنا؛ فعلينا استجماع عزيمتنا للقيام
 به».