لكل مرحلة سؤال

الصفحة الاخيرة 2020/11/10
...

حسن العاني 
في حسابات الزمن يعدُّ القرن الماضي، اعني القرن العشرين، آخر العنقود من ذرية الالفية الثانية، وفي هذا القرن صنع العالم المعجزات وأتى بالعجائب، اذ اكتشف خارطة الجينات وغزا الفضاء وتناول العشاء على سطح القمر وبنى الانفاق والقصور تحت مياه المحيطات و... أما نحن في العراق فانهمكنا بسلسلة متصلة من الثورات والانتفاضات والصراعات السياسية والانقلابات والحروب و"العنتريات التي ما قتلت ذبابة"، ولكن اكثر ما انشغلنا به هو الاجابة عن سؤال واحد (إنت مِنْ يا عمام) الذي يلاحقنا في الخطوبة والزواج والتعيين وحتى في جبهات القتال... ولم يغب عن ذاكرة اغلب العراقيين، كيف كان رئيس النظام ايام الحرب العراقية – الايرانية، يلتقي كل يوم مجموعة من المقاتلين لتكريمهم بالانواط.. وبدلاً من أن ينمي فيهم روح الانتماء الوطني، كان يسألهم واحداً واحداً (إنت من يا مدينة ومن يا عمام)!! 
ومن طريف ما قدمته القريحة العراقية الساخرة في مرحلة الحرب ان قائد الجيش الشعبي (طه ياسين رمضان) كان "يحاسب" عدداً من الجنود الهاربين من الجبهة، ويسألهم عن اعمامهم وعن مدينتهم، قال الاول (أنا من الحلة) فشتمه وشتم المدينة، وقال الثاني (أنا من الفلوجة) فشتمه وشتم الفلوجة، وقال الثالث (من الدغارة) والرابع من مدينة الشطرة والخامس من الموصل والسادس من الحي... وطه ياسين رمضان يشتم مدنهم، اما السابع فقال (أنا من مدينة صدام) فشتمه وشتم مدينة 
العمارة!!
ومحنة العمام والمدن كانت قاسية عليّ وعلى امثالي ممن لم يعيشوا حياة الريف والقرية والمضيف والعشيرة، وممن سلخت حضارة المدن جلودهم العشائرية ولقحتهم بثقافة الوجودية والماركسية والبرجوازية والاسلام السياسي والتصوف والالحاد، فكنا نضحك الى حد السخرية من ثقافة (العمام)، غير ان تلك الثقافة بالمقابل، وبما تمتلك من اسلحة اجتماعية موروثة، لم تكتفِ بجعلنا اضحوكة، بل احاطتنا كذلك بالخوف حتى استباح بنو اللقيطة جمالنا وبغالنا وديارنا وبضاعتنا، ولقد والله تمنى الواحد منا لو كان من (مازن)!
نحن الذين سبقنا ماركيز و(مئة عام من العزلة) بمئات الاعوام والسؤال يطاردنا (إنت من يا عمام)، واغرب ما في هذه الثقافة انها لم تفكر يوماً بزيارة القمر ودور الاوبرا ومتاحف الفن، ولم تلتفت الى فقه علي(ع) وعقل الجاحظ وفلسفة ابن رشد وعطاء الرازي وابن سينا ولم تقرأ السياب والمتنبي و.. ولم تفكر أن تسألنا يوماً (إنت مِنْ يا خوال)، مع ان عدد النساء، او بلغة التعدادات العامة للسكان، (عدد الاناث يفوق عدد الذكور) .. ذلك لان احداً لا يعترف بالمرأة الا في موسم الانتخابات، والغريب حقاً إن (ثلثين الولد على الخال)، ومع ذلك علا نجم (إنت من يا عمام) وخبا نجم (إنت من يا خوال)، وعلى العراقي عند ملء اية وثيقة أن يتأكد من 
(عمامه)!!
ولى القرن العشرون، وانتهى معه سؤال العمام، واطل علينا القرن الحادي والعشرون، ولم يعد احد يسألنا عن عمامنا.. الحمد لله الف مرة، بغض النظر عن كوننا اصبحنا مطالبين بالاجابة على السؤال الجديد: حضرتك من 
يا مذهب؟!