تأملات في قماشة أرضية

ثقافة 2019/01/16
...

ياسين النصير
لم تدرس حسب علمي الأرضيّة التي تفرش عليها الألوان، سواء أكانت يدوية أم طاولة، أم ارضية، كنت أتأمل عددًا من هذه التكوينات التي تتشكل على خشبة مسرح اللون كما لو أنّها لوحات تصنعها الألوان واختلاطاتها بعيدا عن رغبة الفنان او اهدافه، تمارين الألوان حال اختلاطها نوع من العلاقات فتتداخل فيما بينها مؤلفة انسجاما طبيعيا، لكنّها من تبدأ الفرشاة عملها حتى تبنى علاقات جديدة، فالألوان كائنات حيّة، تتحرك ذاتيا وبفعل أداة، وفي كل حركة تستجيب لدرجة من التفاعل، لإنتاج ألوان جديدة. 
وقراءات طاولة الرسام الملطخة بألوان قبل أن تتحول إلى دراما. هي خشبة المسرح، التي يسلط الضوء عليها لتتحرك الشخوص وتنطق ويبدأ الفعل الفعل. عندما تتحرك عليها جينات الألوان بموضوعها وتنفض عنها غبار التجريدية اللونية اللامستقرة. تبدأ الألوان تتفاعل مع المخيلة. لم أقرأ موضوعا عن اختلاط الألوان قبل ان تحملها الفرشاة إلى ما يريده الفنان منها كي تجسد افكاره على سطح اللوحة. ولكني شاهدت ما يشبه ذلك لدى رسامين عالميين، مازلت أتامّل ثلاث خشبات لمسرحة الالوان: واحدة للفنان علي طالب (هولندا) والثانية للفنان سعد علي (بلجيكا) والثالثة للفنان فيصل لعيبي (لندن)، كنت أتلصص على هذه الخشبة اليدوية كيفية الصيرورة الكونية لتفاعل الألوان واختلاطها، كما لو كانت مجموعات بشرية تختلط في عراضة في الليل، بحيث لا ترى منها إلا غبارها المتصاعد وصخبها اللوني، لتأتي الفرشاة  وتنهل من جريانها الصوري الذي يغطي سماء المسرح. 
 
كائنات من خيال
هي العجينة الطينية التي سيخلق منها الله كائنات اللوحة الكونية، كائنات تتحرّك منتقلة من خيال المادة اللونية إلى الواقعية الفنية، متجسّدة بألوان الخيال المادي للأشياء. فللألوان ثلاث حركات:  واحدة يلقي بها التيوب بكل طاقته اللونية كما يفعل الفنان كارل ابل، (وقد شاهدت ذلك في راي أمستردام، بألوانه الباردة وكأنّه يعبّد بها  المسافة ثم ينقلها ككتلة لها طبيعة تخطيطية. كما لو أنّه يشيد لوحته بطريقة الكولاج. والثانية حين توضع الألوان بقصدية على خشبة تُمسك باليد وعليها يجري الفنان تتمارين اختلاطها الأولى، وهي تقع تحت حركة اليد والرؤية، وهو (ما يعمله العديد من الفنانين)، لصناعة عجينة لونية مركبة تعبر عن المشاعر والمواقف المرنة. فالعالم لايرى بصلابته، إنّما بمرونته عندما يدخل الخيال في صياغته فنيًا. والثالثة هي اشتراك الألوان في البنية العامة للفكرة، فاللوحة ليست إلا مسرحا تتشكّل فيها الصراعات لانتاج ثيمة، كما لو كانت اللوحة أرضا زراعية مهيأة لإنبات البذور، لتصبح خلاصتها جزءا من بنية كونية اللإخصاب، لا أجد لزمن هذه الحركات الثلاث حضورا إلا بكونها فضاءات لونية مختلفة النسب تتحرك في أمكنة اللاوعي المعرفي للفنان، وهو ينقل التكوينات من مصدرها الطبيعي الأول،  إلى تكوينها الفني الثاني، ومن ثمّ تصبح لوحة فنية، وهو ما يؤكده هايدغر بـ "الفنية" التي لا تنتمي إلا للعمل الفني، أي جعلها تعيش ككائنات حية بعد أن كانت جزءا من العماء الكوني، هذه الفكرة اثارتها الفرشة الأرضية التي تظهر في القماشة المفروشة على الارض وقد وضعت تحت نظر الفنان فاخر محمد  وقد امتلأت بعض جوانبها بكتل لونية لا ترى تفاصيلها، فبدت الفرشة جزءًا من ذاكرة مبعثرة، بانتظار من ينتشلها من سطحيتها الأفقية/الأرضية، والصعود بها إلى مرتبة اللوحة. سنجد الكثير من أشيائنا المبعثرة مادة كما تقول ما بعد الحداثة لتصير لغة، لوحة، تكوينا، شيئا ما، وبانتظار دائم لمن يجمعها في موضوع ويدخلها بيت اللوحة الفني.
 
معنى التوازن والجمالية
ما شدّني إلى هذه الرؤية المزدوجة بين ألوان تمتزج على الخشبة اليدوية بقصدية الاختلاط الأولي للمواد، وبين ان يأخذ الفنان منها جزئيات ويعمد إلى خلطها ثانية بادراك الفكرة التي سينفذها، هو ما اثارني حقيقة أن الانتقال من العفوية إلى الإرادة، ومن الرؤية الطبيعية إلى الرؤية الفنية، هو الميدان الذي تشتغل عليه الفنية الجديدة، أعني أن التعامل مع اللون، ليس من اجل أن تكون اللوحة بالوان، إنما كي تكون الفكرة متحركة، وكأن قوى أخرى تسهم في اختيار درجات معينة من الالوان المختلطة. هذا الانتقال من المكان الأرضي إلى فضاء اللوحة ومن فضاء اللوحة إلى ذهنية وافكار المشاهد، هي رحلة لونية مختلطة بين اللغة واللون والخبرة كواحدة من اعمال المخيلة التي تعيد تركيب مضمون الأشياء العادية فنًا، ربما يمكن القول أن هذه اللحظة التي يرفع الفنان بها الوانا بفرشاته ويدمجها في فضاء اللوحة هي من أكثر اللحظات تركيزا على معنى التوازن والجمالية. 
إن ما يميز "الفنية" بطريقة أو باخرى، أنّها تتم بارادة وليست عن طريق العفوية أو الصدفة المحض، فثمة اختبار مكاني يتعلق بين لوح اليد واللوحة، سواء كانت اشياء مادية كاللون،او اشياء متخيلة كالدلالة. "الفنية" هي التي تمثل القيمة الجمالية هي الطريقة الجمالية التي اعاد الفنان فيها الألوان المبعثرة على مسند يده، إلى مصادرها المختلطة قبل أن تكون معبأة بانابيب وموضوعة على خشبة ومنتظرة أن تنتقل إلى اللوحة، ففي جوهر اللون ثمة طاقة كونية هي التي تفرض حضورها على الفنان للبحث عنها في الألوان التي يستحضرها قبل البدء..  ويشير الفنان فاخر محمد: إن ما "يتعلق بموضوع معايشة فعل الرسم .. أو فعل الفن بشكل عام.. هو في كيفيه تخليص الفن من العقلانية المسبقة.. أو التخطيط المسبق. ...الفنان بحاجة إلى قوى أخرى تسانده في إنجاز مهمته... ربما تكون في عشوائية العناصر أو المواد.. الفنان لايمكن أن يكون كلي القدرة.. إنّه جزء من عالم.. يلفه الغموض... اللوحة لاتنتمي إلى التصنيع والتصنع. والعقل الممنهج... قدر انتمائها إلى الحياة بكلِّ أشكالها وحريتها وعناصرها الأولى".