ذوالفقار يوسف
لم يكن أمجد من الفتيان الذين ينامون مبكراً، فهو يمتهن حرفة النجارة في محل والده ويعمل بها ما بعد الظهيرة، لهذا فهو يسهر طول الليل الى مطلع الفجر لينام بعدها، الا أن المنبه الذي يوقظه ليس منبه ساعته او هاتفه، بل خليط من اصوات الباعة الذي يتجولون في الشوارع والازقة، وقد سيطر صياحهم على اجواء المساكن، بنبرات ونغمات لا تنتهي، فضلاً عن أصوات الطرق التي "زادت الطين بلة" كما يقولون.
لم يشبه نداء البائعين كما نداء اولئك الذين نلتقيهم في الاسواق الشعبية، اذ ان علو الصوت هو من اولوياتهم لتسويق حاجاتهم، ولجذب اكبر عدد من الناس لشراء بضاعتهم، فالناس يرقدون في مساكنهم ولا يتجولون في الاسواق ليروا ما يريدون شراءه، وكما يقول سالم الزاملي (36 عاما) " لقد حلمت في أحد الأيام وقد رافق الحلم صوت بائع الخضار، وما ان صحوت سمعت صياحه، وهو يمر من امام منزلي"!.
يبين الزاملي " انهم متميزون بنعمة الحنجرة القوية"، وبهذا كلما قل الطلب على منتوجاتهم وبضائعهم، زادت صيحاتهم.
"يوسف الصديق"
اقتضت الموروثات الشعبية أن تستمر رغم التطور التكنولوجي، اذ استبدلت العديد من الوسائل التقليدية باجهزة الكترونية لتسهيل مهام الانسان، منها مكائن غسل الملابس والاواني لتصل الى الشبكة العنكبوتية التي اغنتنا عن الكثير من الاعمال.
والتسويق وطرقه لا يختلف عن بقية الوسائل، فصوت البائع يمكن أن تحل محله أجهزة لبث الموسيقى والصوت وبالطرق التي ترضي الجميع، ومثال على ذلك استبدال ضرب قناني الغاز من قبل الباعة المتجولين له، محمد سلوان (44عاما) الرجل المحب للموسيقى يشيد بهذه الفكرة، فحسب قوله "ان من الممتع سماع بائع قناني الغاز وهو يبث موسيقى لأحد المسلسلات العالمية او مقطوعة لأحد الموسيقيين".
وإن من المريح للسامعين ان يميزوا البائع بهذه الطريقة الجميلة، لا أن يسمعوا صوت الطرق على قناني الغاز بصورة تؤذي المستمع، اذ تم في الآونة الاخيرة الاتفاق على نغمة موحدة لتسويق بيع قناني الغاز، وهي بث موسيقى مسلسل" يوسف الصديق" كاشارة لدخولهم في الشوارع والأزقة.
"عالسجين"
بالرغم من ارتباط هذه المفردة بآلة جارحة، ومن يروم استعمالها في طريقة تؤذي البشر تعد جنحة يحاسب عليها القانون، الا ان البائع خضير ناهي (35 عاما) ينادي بها باعلى صوته بلا خوف ولا حسبان، فهو يبيع الرقي ليس الا، وحسب قوله إن " المراد بها اعطاء الامان للمشتري، بإنك ما ان تشتري مني سأثبت لك ان الفاكهة التي أبيعها جيدة".
لم يكن في خلد خضير الا جذب المشترين بهذه الطريقة، ولان الشعب العراقي من الشعوب الذي يصعب اقناعه بجودة المنتوج، فكما يقول "اتخلص بهذه المفردة من القسم". فضلا عن اخرين قد يستعينون برخص سعر منتوجاتهم، فهذا ينادي " تلث كيلوات بالفين"، واخر يبيع صندوق الطماطم بسعر الجملة، لتضج الشوارع بمئات من اسماء واسعار الخضراوات والفواكه، ويحتد التنافس بين البائعة، كلما زاد علو اصواتهم من اجل استحصال قوت يومهم، يختم ناهي ان "غايتنا في النهاية هي ان نسمع من في المنزل عن بضاعتنا، اذ اني عانيت في أحد الايام من تمزق بالحبال الصوتية، عندما قل طلب المواطن، فاثرت ان يكون صوتي اعلى لتنبيههم لوصولي".
التسويق الجغرافي
استطاع العديد من الباعة استغلال اكبر فرصة حتى يبيعوا للمواطن كل ما لديهم، وذلك خوفاً من إفساد بضاعتهم، اذا ما بقيت ليوم اخر، فالبائع همه تصوير حاجته للمواطن بهذه الصيحات، فهو يزينها ويجملها باقصى ما يمكنه لترغيب المشتري، براء البياتي (31 عاماً) هي الاخرى اقنصت ذاكرتها بعضا من مفردات التسويق الجغرافي، " ابتكروا الباعة انواعا جديدة من تسويق بضاعتهم". اذ ربط الحاجة بمصدرها ومكانها وذلك لمعرفة جودة البضائع في ذلك المكان، فينادي "برتقالج يا ديالى" واخر "زبيدي العمارة" ويقصد السمك الذي يتكاثر في تلك المنطقة التي تمتاز بجودة الاسماك فيها.
بعد أن وجدوا تلك الوسائل والابتكارات مزجوها مع اصواتهم العالية، بعضهم يصرخ بصوت مزعج، واخر قد استغل صوته الجميل ليطلق أغاني وقوافي ليكسب بها المشتري، المشرف التربوي عبد المنعم العزاوي (54 عاماً) يقلقه الامر كلما حدث، فزوجته الحاجة سعدية تعاني من عدة امراض، وحسب قوله "إنّ نومها معجزة".
العزاوي يحاول قدر استطاعته ان يغلق الابواب والنوافذ في اوقات وصول الباعة، الا انهم كثر وقد يستمر الامر من طلوع الشمس الى غروبها. يردف "ما أن يمر احد بائعي الخضار امام منزلي وانا ادعو أن يبتعد بسرعة"، الا ان ما يشكو منه الكثيرون هو ما ان ينتهي صاحب الخضار من صياحه، الا وقد تبعته صيحات اخرى، لتمتلئ مائدة مسامعنا بانواع من اللحوم والفواكه والماء، يضاف لها صوت بائع الخردة ومصلح الطباخات وغيرهم.
سادس علمي
لم يقتصر اصوات الباعة على المرضى وكبار السن في المنازل، بل امتد ليشمل فئات اخرى من الذين تقوقعوا في غرفهم وهم يأملون الهدوء، فالشاعر والمهندس والطالب وكل من يروم ان يجاهد للفهم بصفاء عقله يكون من اولويات اكمال اعماله هو الهدوء، حسين جبار (22 عاماً) طالب في السادس الثانوي الذي يستغل ايام عطلة ما قبل اداء الامتحان النهائي، حبس نفسه في إحدى الغرف غارقا في بحر القواعد والامثلة في صفحات المناهج، "انهم وباء لا خلاص منه، وسيكونون احد اسباب تدني مستواي في الامتحان"، هكذا وضّح معاناته مع اصوات وصياح الباعة المتجولين، يبتسم جبار باستهزاء ويقول " اذا استمرت هذه الظاهرة فاعتقد سأنضم إليهم".
وعلى الرغم من تضمين قانون يسيطر على الضوضاء أقره البرلمان في ايلول 2015 بغرامة تصل الى مليون دينار عراقي، الا أن الباعة استطاعوا ان يستبدلوا نص أغنية "فوك صوتك يا وطن ما يعلا صوت" ليكون صوتهم هو الأعلى.