مواقع ومواقف !

الصفحة الاخيرة 2020/11/16
...

جواد علي كسار
اعترف أن الظاهرة ليست عراقية ولا عربية بل عالم ثالثية، فعندما يكون أحدهم في المعارضة تراه يحملُ على كتفيه تراث المثالية والثورية والعدالة، من لدن أبي ذر الغفاري إلى الثائر الأرجنتيني تشي جيفارا، ويفوق في دعوته المثالية كبرى "يوتبيات" الفكر السياسي ومدوّناته الرومانسية، من جمهورية أفلاطون مروراً بمدينة الفارابي الفاضلة، بلوغاً إلى الأحلام الوردية لماركس في مجتمع المساواة والمشاعية واللادولة !
وعندما تدور الأيام ويحمل قانون المداولة، هذا الصنف من الناس إلى قمة السلطة، ترى العجب حين يتحوّل ذلك المثالي والدعوي التبشيري، إلى الواقعية السياسية في اللغة والمواقف، لا يؤمن بأركان هذه الواقعية وحدها، بل يزيد عليها أركاناً ويبزّ أكبر رموزها، من معاوية إلى ميكافيلي وتوماس هوبز بلوغاً إلى ستالين وهتلر وتشرشل !.
 فإذا كانت الواقعية السياسية تقوم في طورها التقليدي، على حماية السلطة من خلال المصلحة وقوة الدولة، فقد أضاف الواقعيون الجُدد إلى ذلك، عنصر التخطيط العقلاني وهياكل الدولة العصرية لتكريس فرديتهم، في ظلّ الهاجس الأمني الدائم وهمّ البقاء! 
في المعارضة يستند الخطاب غالباً إلى احترام القاعدة العريضة من الناس، وانه لا ينبغي لأحد أن يبقى جائعاً أو مريضاً أو أمياً وبلا سكن، ترى أصحابه ينغمسون بلغة عقلانية في احترام الجمهور، أين منها عقلانية ابن سينا وابن رشد وابن خلدون، بل وأرسطو نفسه، لكن لا يلبث هذا الخطاب أن ينكفئ، ولا يُبقي المنكفئون نعتاً سلبياً إلا وصموا به الجمهور وعامة الناس، بدءاً بتعييرهم بالفقر والجهل، وانتهاءً بالمنّ عليهم بحق الوجود والمعيشة، حتى لا تبقى مقولة لغوستوف لوبون صاحب "سايكولوجية الجماهير" ، إلا رموا بها الناس وشتموهم بها! 
عندما تمر على أحد هؤلاء سنوات طويلة في السلطة، تراه يفكر بيومه ولا ينظر أبعد من أرنبة أنفه، وعندما يخرج من السلطة يفرش لنا القادم من الأيام، بمستقبليات حالمة.
حين يكون أحد هؤلاء في السلطة يشمخ بأنفه ويتكبّر، وهو يحّول أهله وحاشيته إلى أنصاف آلهة، مع أن أغلبهم أٌميون، ليس لهم فضيلة إلا التسبيح بحمد صاحب نعمتهم، والغريب عندما يخرج من السلطة، يقرع أسماعنا بعظات الزهد وكلمات الرشد، ويستحضر من الامام أمير المؤمنين، قوله :" انصف الناس من نفسك، ومن خاصة أهلك، ومن لك فيه هوىً" ولست ادري لماذا نَسيَ هذه الكلمات يوم كان في السلطة، وما فائدة أن يتذكرها وهو خارج السلطة! 
الأسوأ من ذلك حين يتحوّل هذا الصنف من السياسيين إلى التقاعد، تراه يزايد في المواقف السياسية، ويجنح إلى التطرّف وينسى نهجه وأفكاره ومساره، يوم كان يمارس الحكم باسم الواقعية السياسية! ميراث التقاعد السياسي الرئاسي في بلد كأميركا مثلاً؛ هو مذكرات ومركز دراسات ومكتبة باسم الرئيس في ولايته أو مسقط رأسه، تقدم خدمات معرفية وتتحمل نفقات دراسة بعض الطلبة وأعمال خيرية أخرى، كالمشاركة بجمع التبرعات وتقديم المحاضرات في الجامعات وهكذا! أما ميراث التقاعد عندنا لمن ينجو من السجن والقتل وحبل المشنقة، فهو المزيد من التطرّف والجنوح إلى التصعيد واللاعقلانية!