الجزّار!

الصفحة الاخيرة 2020/11/17
...

حسن العاني 
في اروقة الصحافة كما في مقاهي الطرف، يحدث الشيء نفسه، نطلق الالقاب على بعض الاشخاص المتميزين بشيء ما وعلى هذا الاساس كنا ندعوه الجزار، ومع الايام اصبح هذا اللقب بديلاً عن الاسم الاصلي لأول سكرتير تحرير عملت معه قبل اكثر من 50 سنة! 
ربما كان الرجل مهووساً، فهو لا يدع مادة صحفية تمر عليه الا وقام بإجراء تعديلات عليها، تبدأ من العنوان وتنتهي عند آخر كلمة، ولا ينجو من قلمه كاتب مبتدئ ولا موهوب ولا محترف ولا عبقري، كلهم سواسية كأسنان المشط، وكان من الطبيعي أن يعرض هذا التصرف الجريدة الى الحرج الدائم فبعض الكتاب اسطوات مهرة، لهم اساليبهم المتفردة واسماؤهم اللامعة، ولا ريب انهم يجدون غضاضة ما بعدها غضاضة، حين يتدخل كائن من يكون في كتاباتهم حتى لو كان وزير الاعلام!
لم تنفع مع (الجزّار) توصيات رئيس التحرير، الذي كان يعتقد في الوقت نفسه، ان السكرتير رجل مخلص في عمله، يمضي وقته في غرفته الصغيرة، قابعاً وراء منضدته، من بدء الدوام والى ساعة متأخرة من الليل، ومن الطرائف التي سمعتها من رئيس التحرير وهو يمازحه امامنا قائلاً (انا واثق لو أنك تعيد قراءة المقال الذي تكتبه انت بنفسك، لحذفت ثلاثة ارباعه، الحمد لله ان افتتاحيتي لا تمر عليك، والا لقمت لها بالواجب)!!
يومها كنت حديث عهد بالعمل الصحفي، فظننت أن أي سكرتير تحرير يقوم بالحذف والتعديل بصورة الزامية، حتى لو كان الامر لا يستوجب ذلك، واعترف ان هذا الظن الخاطئ سبب لي انزعاجاً وقرفاً شديدين في الايام الاولى من التحاقي بالعمل، لولا ان زملائي القدامى اوضحوا لي، أن الرجل ودود جداً، ولكنه يعاني من هذه العقدة، ولكي احمي كتاباتي من قلمه، انجزت مقالة رومانسية عن ليل بغداد، اردت منها قطع الطريق على السكرتير، ولذلك كتبتها بعناية كبيرة، ثم عرضتها على 3 من اصدقائي الشعراء، وعلى استاذ ضليع في اللغة العربية، كما عرضتها على 4 من كبار الصحفيين المحترفين، وتوصلنا معاً الى ان فكرة المقالة ولغتها واسلوبها جاءت على افضل ما يكون عليه البناء الصحفي، بحيث لا مجال فيه للتغيير!
سلمت الموضوع، وانا عازم اذا مسه السكرتير على فضحه امام الجميع، وتحديه ان كان قادراً على انجاز مادة صحفية، بجمالية وتكامل المادة التي انجزتها وكان قراري يومها اقرب ما يكون الى قرار مراهق مغرور!!
في اليوم الثاني ظهرت مقالتي على الصفحة الاخيرة، وهي تتصدر مكاناً مميزاً، وحجماً كبيراً مع صورتين لليل بغداد الجميل، الا ان هذا كله لم يكن يعنيني، فقد قرأت الموضوع على مهل، واعدت قراءته ثانية، وشعرت بسعادة غامرة، وقلت لنفسي، الرجل مظلوم، وربما القيت اللائمة على زملائي الذين شوهوا صورة الرجل واطلقوا عليه لقب الجزار فهو لا يتصرف ولا يشطب اذا كانت المادة الصحفية جيدة، والعيب في الكتاب وليس في سكرتير التحرير، ومرة اخرى اخذتني السعادة على اجنحة من الاحلام الوردية، لان الرجل لم يغير في موضوعي جملة واحدة، ولم يحذف حرفاً واحداً، قبل أن اكتشف انه اكتفى بحذف اسمي من الموضوع!.