الشعر.. حالة من التسامي القائم على التخييل.. المتجاوز لجغرافية المكان والزمان والمألوف.. فيختصر المسافات بوساطة منتج (شاعر) يوظف وسائله التعبيرية المكتظة بوظائفها الجمالية التي تتجسّد بشكل رمزي ودلالة اجتماعية تقترن بالواقع..
والنص القصير جدا (الومضة الشعرية) (اللحظة غير القابلة للتأجيل) نزعة بلاغية تعتمد التكثيف الأسلوبي والفني مع ايجاز دال على حقلها الدلالي فكريا ووجدانيا.. مع تعدد ظلال الرؤية تحتضنها وحدة موضوعية تشكّل تأسيسا على الاضاءة الخالقة لفن متسع الرؤى.. موجز العبارة.. للتعبير عن اللحظة الشعورية التي فيها يكون (الشكل والمحتوى مندمجين في عملية الخلق الادبي) على حدِّ تعبير هربرت ريد..
و (الجدار) النص الشعري المستل من مجموعة الشاعر جبار الكوّاز (أحزان صائغ الطين) التي أسهم الاتحاد العام للادباء والكتاب في العراق بنشرها وانتشارها /2018.. نص يقوم على الصورة الشعرية.. الاداة الكاشفة عن اصالة التجربة وجوهرها.. لتحقيق الذات موضوعيا بتوظيف تقانات فنية تتمثل في التكثيف والايجاز الجملي والتركيز على الفكرة المختزلة في لغتها مع قدرة ادهاشية.. فضلا عن اتصافه بسرعة الايقاع والايحاء واكتنازه بطاقة دلالية ابتداءً من العنوان العلامة السيميائية الدالة بفونيمها المتفرّد والكاشف عن ذات مأزومة..
حاولت مرارا
ان امسح روحي من ت
ع
ب
حاولت مرارا
ان ارفع عيني من ع
ت
ب
أدهشني
أن ظلالي اخترقت جسدي
التصقت أرضا
وا عجبي
واااااعجبي
كم قرنا..............
مرَّ ولم أرفع قدمي /ص25 ـ ص26
فالنص يخوض في غمار مغامرة حلميّة يكشف عنها التقطيع الكلمي الذي يتوزع بين محورين يشكلان بؤرته المركزية:
محور الذات ــــــــــــــــ ت ع ب
محور الذات الآخرـــــــ ع ت ب
اللذين تميزا بالتنوع والكثافة الدلالية.. مع تشكل بنائهما التركيبي.. فضلا عن حرص المنتج (الشاعر) على جعل وحدات النص الدلالية بمقاطعها التي تتعالق مع بعضها لتحقيق الوحدة العضوية والموقف الشعري فيقدم نمطا تعبيريا متميزا بمعطياته الفنية وتقنياته الشكلية (الصورة والتخييل والرمز والرؤية المكثفة سياقيا وتركيبيا...).. والأسلوبيّة التي تستوعب التجربة والرؤيا.. مع تكثيف العبارة وعمق المعنى.. بجنوح الشاعر الى التركيز والايجاز والحذف والاضمار.. للتعبير عن لحظة انفعالية بتوظيف نزع بلاغية واعتماد تقنية الانزياح .. واستنطاق الرمز وصورته.. لذا فالنص الشعري عند الشاعر يتخذ مسارين شعريين متضادين يتمثلان في: (الرؤيا والرؤية) وهما يعبران عن الحالة النفسية المأزومة زمانيا ومكانيا باسترسال ينتهي بضربة أسلوبية مفاجئة.. بعد أن مارس المنتج (الشاعر) الارتقاء في جملته الشعرية المتصاعدة ضمن بناء متوازن في جمله وصوره من أجل تحقيق اللذة الجمالية المتكئة على الايحاء بالصورة الشعريّة بوصفها فعالية لغوية تسهم في انتشال اللفظة من انشائيتها صوب مجازيتها التصويرية ومن ثم خلق (رؤية فكرية وعاطفية في لحظة من الزمن).. تؤطر نصا يتأثث من تلاحق الصور القابضة على لحظة الانفعال مما يمكنها الانفتاح على تقنيات السرد الشعري البصري السيمي (المشهدي) الذي يتطلب حضور المكان الحاضن للفعل الشعري وانفعالاته.. مع توظيف الرمز والمجاز والاستعارة اللفظية المفضية على النص عمقا فكريا وبعدا جماليا... فضلا عن احتضان الشاعر الحياة بكل موجوداتها لخلق صوره المتوالدة من بعضها البعض كونه يعي ان الفن (التعبير بصور) والذي لا يتحقق الا بامتلاء المخيلة بالمعطيات الحسية التي يتفاعل معها المنتج بوعي كلي.. فضلا عن ان المنتج (الشاعر) يوظف التعبيرات المشحونة بطاقة دينامية من اجل الحفاظ على العاطفة المتمرّدة على الواقع ببناء فني تركيبي يعتمد معمارية متفرّدة بتناسق الصور بوحدة موضوعية متزنة.. فضلا عن توظيفه الرمز لتطوير الفكرة مع محاولة التجاوز وخلق ايقاع متحرك موزع نوتاته على لوحات شعرية مشهدية.. اضافة الى توظيفه تقانات فنية تسهم في انقاذ النص من الغنائية المباشرة وتحويل صوره من نبضها الفكري الى نبضه الجمالي كما في نثر الحروف افقيا وعموديا من اجل خلق مناخ ملائم للحالة النفسية للمنتج (الشاعر) من جهة ومن جهة اخرى تنقل متلقيها الى منظور هندسي حداثي يسهم في تعميق المعنى ويكشف عن وعي المنتج بقيمة المفردة معماريا وتشكيليا.. ومن ثم ملامسة الابعاد الجمالية التي يحققها المشهد النصي الذي ينبثق من موقف انفعالي يبوح به الشاعر بوحا اقرب الى حوار الذات ويستنطق المكان بصفته دالا اشاريا متشعبا باحداثه والذي شكل بؤرة مركزية تجتمع فيها خيوط النص وتمنح نسيجه تماسكا ووحدة موضوعية من خلال سرد شعري للمواقف المتوالدة من تفجير الفعل (تعب) الدال على الحركة الكاشفة عن الافعال الانسانية.. فضلا عن انه يستثمر التداعي والتفاصيل اليومية لاضاءة بعض العوالم المعتمة بلغة محكية بعيدة عن التقعر عبر خطاب الذات ومناخاتها للتعويض عن الغربة وايجاد حالة من التوازن والعالم الموضوعي..
وبذلك قدّم الشاعر نصا تميز بعلامتين مضيئتين: اولهما البنية الدرامية.. وثانيهما اللغة المنطلقة من ضمير المتكلم (نا) مع اعتماد مستويين فنيين متداخلين: احدهما صوتي والاخر جمالي بوحدة بنائية احتضنت الفعل الشعري والانفعال الشعوري..