لماذا تقولُ ما لا يفهمُ..؟

ثقافة 2019/01/16
...

محمّد صابر عبيد
 
إنّما وُجِدَ القولُ أساساً للإفهام وتحقيق أعلى درجات التواصل بين الأفراد القائلين وجمهورِ المتلقّين، وما أن يستعصيَ قولُ القائلِ على (المروي له/المتلقّي) فإنّه يخرجُ من سياقِ الإفهام والتواصل راحلاً إلى سياقٍ آخر. السياقُ الآخرُ حتماً لا يتقصّدُ الإفهامَ المباشرَ لإنجازِ حالةٍ من التواصل القريب المباشر، بل يسعى نحو غاياتٍ أوسعَ وأعمقَ وأبعدَ تقتضي - من ضمن ما تقتضيه - (الانزياح) عن منصّة الإبلاغ المباشر للمقول نحو فضاءٍ منفتحٍ على الاحتمال الدلاليّ، إذ تنفكُّ عُرى العَقدِ التواصليّ الحاسمِ بين طرفي القول حتى يتمّ الدخولُ في فضاء (ما لا يُفهمُ) فلا يحصلُ اللقاءُ المُنتظَرُ بين طرفي المعادلة.
حين يحصلُ عدمُ الفهم هذا بين الطرفين تتّجه القناعةُ المنطقيّةُ نحو سببين رئيسين لا ثالثَ لهما، الأوّل يتمثّل في أنّ المشكلةَ في الكلام غير القابلِ للفهم، والثاني يتمثّل في عدم قدرة المتلقّي على فهمِ الكلام لنقصٍ ما في آليّات استقباله، وما يمكن أن يحسمَ هذا الأمرَ هنا هو أنّ اتفاقَ جمهرةٍ من القرّاء المَعنيين على صعوبة تلقّي الكلام يُثبتُ أنّ المشكلةَ في الكلامِ لا في مجتمعِ التلقّي، ووجود من يفهم الكلامَ ينتهي إلى أنّ المشكلةَ حتماً في المتلقّي، ويمكن أن نسمّيَ حالةَ مشكلةِ الكلام غير المفهوم بالاستغلاق النصيّ، ونسمّي حالةَ مشكلةِ التلقّي بالغموضِ الفنيّ وما يدور في فلكهِ من مصطلحاتٍ رديفةٍ مجاوِرَةٍ.
وإذا كانت حالةُ الاستغلاقِ لا تحتاجُ الكثيرَ من النظرِ والعنايةِ والتحليلِ والتأويلِ بِحُكْمِ أنّها محسومةٌ لصالح الافتراقِ المطلقِ بين طرفي التداول (الكلام والتلقّي)، فإنّ النظرَ كلَّهُ بما ينطوي عليه من كثيرِ إمعانٍ وعنايةٍ وتحليلٍ وتأويلٍ سيتوجّه نحو الغموضِ الفنيّ بوصفِهِ الحالةُ الإبداعيّةُ الأرفعُ والأكثر حرارةً وديناميّةً وحراكاً نقديّاً، وهذا الغموضُ الضاربُ جذورَهُ في أعماقِ النصوصِ يحدُّهُ السحرُ من جوانبهِ وأطرافهِ وطبقاتهِ وفرضيّاتهِ التي لا تنتهي، لأنّ السحرَ بلا غموضٍ أصيلٍ لا يكونُ سوى جمالٍ باردٍ يفتقرُ للحركةِ والتجلّي والسؤالِ والتحدّي، وهو الآلةُ التي تلعبُ لعبةَ المفاتيح الضائعةِ بين المتلقّي والنصّ حين يسعى المتلقّي نحو العثور على هذه المفاتيح التي بوسعها فكّ مغاليق الغموض، والنصّ في الوقت نفسِهِ يجتهدُ في إخفاءِ المفاتيح وتضليلِ حركةِ التلقّي ما وسعه ذلك.
 
الغموض والإبهام
وإذا كان للغموضِ درجاتٌ وطبقاتٌ وصورٌ وحالاتٌ ومسالكُ ومقاماتٌ فإنّ الإبهام ربّما يحتلُّ درجةً أعلى من الغموضِ حين يبلغُ مرحلةً يبتعدُ احتمالُ الفهمِ عن مدى المتلقّي أكثر فأكثر بعد أن يصعدَ الحاجزُ بينهما ويقلّ الضوءُ، وتندرُ فُرصُ الوصولِ، ويتعذّرُ على المتلقّي مجالُ فكّ نسيجِ الإبهامِ إلّا بأدواتٍ فاحصةٍ خبيرة مجرِّبة تعمل بأقصى كفاءتها ومنتهى قدراتها، بشرط أن لا يعبرَ الإبهامُ حاجزَ الغموضِ الفنيّ الأصيل ويصل إلى مرتبةِ الاستغلاقِ فيكفُّ المتلقّي عندها عن محاولةِ الفهمِ لاستعصاءِ السُبُلِ إليه.
الشعرةُ التي تضمنُ درجةً مُعيّنةً من درجاتِ التواصل والتداولِ ينبغي أن لا تُقطعَ بين الطرفين مهما استطالتْ أو تعقّدتْ، فثّمة دالٌّ في بداية الشعرةِ ومدلولٌ في نهايتها، كلّما استطالت الشعرةُ صارت العلامةُ أكثرَ تعقيداً وثراءً وتعدّداً واحتمالاً في سياقٍ ينطوي على أعلى قَدرٍ من مراتب الصوغ الفنيّ، وهكذا يكونُ اللعبُ على المسافة التي تمتدّ الشعرةُ عليها بين الدالّ والمدلولِ على النحو الذي يعطي لآليّات التأويل الفرصة الأكبر والأوسع والأعمق للعملِ والفعلِ والإنتاجِ، ضمن ستراتيجيّة حراكٍ نقديٍّ جماليٍّ يمارسُ رغبتَهُ الأصيلةَ في الكشفِ والاكتشافِ واستدراجِ الانبثاقاتِ الفنيّة النصيّة نحو مصائدِ القراءةِ.
الغموضُ شبكةٌ من الأسئلةِ المُحفّزةِ المثيرة التي تقود إلى مزيدٍ من رغبة الحفر والتوغّل والاقتحام الشرس في مجاهيل المَقُولِ وتفكيك كيفيّاته واستخلاص مؤونته الجماليّة الاستثنائيّة، إنّه انفتاحٌ شاسعٌ على موجاتٍ من الاحتمالِ والتحريضِ والمشاكسةِ والعتمةِ والإلماحِ والإضمارِ والشكِّ والمغامرةِ والمقامرةِ واللذّةِ، لا سبيلَ إلى حياةٍ مُشبَعةٍ بالمعنى بلا غموضٍ يجعلها صالحةً للعيشِ والديمومةِ والجمالِ والحيويّةِ، والغموضُ على هذا النحوِ كثافةُ غيمٍ من إغراءٍ وإغواءٍ وتحريضٍ وتحدٍّ وتحفيزٍ وإثارةٍ وترغيبٍ وترهيبٍ يقودُ إلى حرب العلامات بأسلحةِ القراءةِ والتحليلِ والتفسيرِ والتأويلِ وتأويلِ التأويلِ.
في فضاء الغموض يتحرّكُ الدالُّ المتموضعُ بلباسِهِ اللسانيّ الرصينِ ويتحوّلُ إلى علامةٍ وإشارةٍ يتخلّى فيها عن رصانته ودقّته التعبيريّة واحتوائهِ المطلقِ الحاسمِ للمدلولِ، الدالُّ هنا لا يتقصّدُ دلالةً محدّدةً يجري نحوَها بكلّ رغبةِ التعريفِ والبيانِ بل يتحرّى دلالاتٍ احتماليّة متوافقة أحياناً ومتضادّة أحياناً أخرى، فالظاهرُ القوليُّ يتحرّكُ في مسارِ المعنى على موجةٍ واحدةٍ لا يخرجُ من سكّتها لضمانِ تحقّقِ التواصلِ القريبِ بين طرفيهِ (القائل والسامع)، في حين يتحرّكُ المكبوتُ والمُضمرُ القوليُّ على مجموعةٍ من الموجات المتداخلةِ والمتخارجةِ لأجلِ إنتاجِ طاقةِ معنى تتشظّى على مختلف الاتجاهاتِ، ومهما توغّلتْ آليّأتُ التأويلِ في طبقاتها فإنّها لا تستنفدُ ما تكتنزهُ من جواهرَ وأضواءٍ ومباهجَ وتمثّلاتٍ.
 
فرص التأويل
حين يتطابقُ الدالُّ مع المدلولِ تماماً تنعدمُ فُرَصُ التأويلِ ولا يتبقّى من العلاقةِ بين الراوي والمروي له سوى الكلمة ومعناها الواحد غير المتعدّد، لكنّه حين يبدأ المدلولُ بالابتعادِ شيئاً فشيئاً عن دالِّهِ يشرعُ المعنى الواحدُ بالتفكّكِ لصالحِ التعدّدِ والتنوّعِ والاختلافِ والخصبِ والثراءِ، على النحوِ الذي يحتاجُ فيه إلى مقاربةٍ جديدةٍ تعبرُ من فوق الكلمةِ الملتصقةِ بمعناها، حين ينزاحُ عن هذا المعنى المعجميّ الضيّقِ منفتحاً على معانٍ ثوانٍ وثوالثٍ وربّما أكثر، يغتني النصّ فيها أكثر فأكثر بحيثُ لا يمكنُ إيقافُهُ عند حدٍّ مُعيّنٍ قابلٍ للثباتِ
 والاستنفادِ.
التطابقُ لا يفسحُ مجالاً لاحتمالات المعنى بل يقيّدُهُ بدلالةٍ حادّةٍ قاطعةٍ ونهائيّةٍ حاسمةٍ لا تحتاجُ أيّ قدرٍ من التفكير لاستيعاب محتواها واستقبال معناها، إنّه أشبهُ بالمرآةِ المجرّدةِ التي تعكسُ صورةَ المرئيِّ بلا إضافةٍ تُذكَرُ، بينما الابتعادُ عن التطابقِ يسهمُ في تعدّدِ المرايا وتنوّعها بما يجعلها قادرةً على أن تعكسَ شبكةً من الصورِ في اتجاهاتٍ ومساربَ ومساقاتٍ لا حصرَ لها، كي تصبحَ إشكاليّةُ القولِ والفهمِ أو القول عدم الفهمِ صالحةً للدخولِ في جوٍّ معرفيٍّ للجدلِ والحجاجِ المُنتِجِ، ولعلّ النصَّ الأدبيَّ (والشعر منه على نحوِ أخصّ) هو مدار السؤالِ الضاربِ في متاهاتِهِ حولَ هذه الإشكاليّةِ بما يجعلُها إشكاليّةً معرفيّةً جوهريّةً في شاشةِ الحياة.