المحاولةُ.. التجريبُ.. الإيجادُ

ثقافة 2019/01/23
...

محمّد صابر عبيد
المشكلةُ دائماً في التعريف، وهي قطعاً مشكلة حضارية بالغة الخطورة، فما دمنا لا نولي العناية المطلوبة لتعريف الأشياء بدقّة وحيويّة وموضوعيّة ورؤية سنبقى نخلطُ الحابلّ بالنابل من غير أن ندرك سبيلنا على النحو المطلوب، التعريفُ يُجلي الغموضَ ويبيّنُ الدلالةَ ويضعُ كلّ شيء في مكانه المناسب القادر على العمل والتأثير بأعلى كفاءة ممكنة، أمّا قلّة العناية بالتعريف سواءً أكان لجهلٍ أم لمقصدٍ خبيثٍ فإنّ التداخل في المعاني والصور يحيل المشهد على الفوضى والغبار والتعتيم والتعمية والبلوى، وعنده يحصل المحظور حتماً بسبب فقدان النظام وتساوي الأشياء إثر غياب الفوارق والمميّزات بين ما هو عاديّ في الممارسة وما هو بارع في الابتكار، لتكون الأشياء كلّها عندئذٍ بسعرٍ واحد.
يحقّ لنا في هذه المناسبة أن نتذكّر كتابَ (التعريفات) لعلي بن محمد بن علي الشريف الحسينيّ الجرجانيّ العالم الفقيه الموسيقيّ الفيلسوف اللغويّ المتوفّى سنة [816هـ] هجرية، وهو معجمٌ رصينٌ يتضمّن تحديد معاني المصطلحات المستخدمة في العلوم والفلسفة والمنطق واللغة والفنون والفقه في عصره، من أوائل المعاجم الذي له ترتيب أبجديّ أخذه من معاجم سبقته، لنقول إنّ مَهمّة التعريف لا تتوقّف عند حدّ المعنى اللغويّ أو الاصطلاحيّ بل تمتدّ إلى المعنى الحضاريّ العامل والفاعل في صوغ النُظُم والقوانين، فنحن بحاجةٍ ماسّةٍ لتعريف الأشياء كي نتمكّن منها بسلاح المعرفة والفهم والإدراك والتأويل ووضع كلّ شيء في مكانه الطبيعيّ الصحيح والمُجدي، والتنبّه إلى الفروق بين تعريفٍ وآخر على نحوٍ يسهّل لنا تمييز تعريفٍ ما عن غيره في السياق اللغويّ أولاً، ثمّ الاصطلاحيّ، ثمّ الحضاريّ.
التعريفات التي ننوي مقاربتها هنا تتلازم فيما بينها تلازماً بيّناً على أكثر من صعيد، فالدوال الحاملة لهذه التعريفات هي (المحاولة) و (التجريب) و (الإيجاد) ضمن نسقٍ تعريفيّ يبدأ بالتعريف الأوّل وينتهي بالأخير، فالمحاولة أدنى مراتب الفعل لمعرفة الأشياء واستكشافها والدخول في فضائها واستلهام الممكنات الذاتيّة المتاحة لإنتاجها، يصاحبها خجلٌ وارتيابٌ وخوفٌ وغموضٌ تكون نسبة النجاح فيه مساويةً تقريباً لنسبة الإخفاق، وعلى الرغم ممّا ينطوي عليه تعريف (المحاولة) من إقدامٍ وعبورٍ لحاجزِ التردّد وانعدام الموقف إلّا أنّ معنى الخشية من عدم النجاح تبقى قائمةً وحاضرةً، مع أنّ طبيعة المحاولة تحتمل النجاح والإخفاق بحيث لن يكون عدم تحقيق النجاح في المحاولة مفاجأة مثيرة، ويحضر توقّع الإخفاق بوصفه احتمالاً قائماً لا يثير إحباطاً كبيراً في المضمون لأنّ ثمّة محاولة لاحقة بوسعها أن تحقّق النجاحَ المطلوبَ في ظروف أفضل تتهيّأ للمحاولة الجديدة.
التجريب مرحلة أعلى من مرحلة المحاولة وأدقّ وأكثر جرأة منها حيث يتمّ تحجيم الخجل والارتياب والخوف من فضاء المغامرة على نحوٍ معيّن، والتقدّم خطوة أو خطوات بعيداً عن الخشية من النجاح أو الإخفاق لأنّ الهدف من التجريب أساساً هو الوصول إلى حصد نتائج ودراستها والإفادة منها، هو عمل يقترب من فضاء البحث بمعانيه ومستلزماته وفعاليّاته وانفتاحاته على الآفاق من دون تعصّب أو حساسيّة زائدة، وعمليّة البحث والتقصّي في منظورها اللغويّ والاصطلاحيّ المرتبط بالتعريف الدقيق هي أقرب إلى النجاح منها إلى الإخفاق، مصحوبة بقدرٍ كبيرٍ من التروّي والهدوء والتمعّن والتعقّل والدُربة والممارسة النشيطة الفاعلة 
الهادفة.
مرحلة الإيجاد هي المرحلة الأعقد في هذا السلّم إذ يتجاوز مرحلتي المحاولة والتجريب كي يدخل مرحلة الخلق والابتكار الأصيل، وهي مرحلة راقية استثنائيّة لا يمكن أن تتاح إلّا للقلائل النادرين جداً في مجال الإبداع الكونيّ من أصحاب المتون الأصيلة الخلّاقة، أولئك الذين يذهبون مباشرة نحو النجمة المضيئة كي تحتفي بها أصابعهم وتتوهّج بها أرواحهم.
الفاعل في هذه المرحلة هو (الواجد) وهو لا يتشكّل إلّا بعد المرور المشبع بمرحلة المحاولة ذات الهُويّة البحثيّة المُضنية، والمرور الثريّ الخصب بمرحلة التجريب وهي تتوفّر على القصديّة العالية في الاستمرار بالعمل لأجل بلوغ مرحلة الإبداع، لذا كان (بيكاسو) يقول: أنا لا أجرّب.. أنا أجد، حين أدرك أنّه عبر المرحلتين الآنفتين بعمقٍ وتحدٍّ ونجاح ليكون في نهاية الأمر (بيكاسو) الذي نعرف، ومن يقرأ سيرة بيكاسو التي سطّرتها إحدى زوجاته أو عشيقاته يدرك تماماً ماذا يعني بجملته العظيمة هذه.
لا يمكن الانتقال نحو مرحلة جديدة في سلمّ التحوّل والتقدّم والتطوّر ما لم يتمّ استيفاء شروط استيعاب المرحلة السابقة وتمثّلها وامتصاص كامل رحيقها، إذ لا يتحقّق جدوى هذا الانتقال من مرحلة إلى أخرى بين هذه المراحل الثلاث بلا تحقّق الإنجاز المتكامل في كلّ مرحلة سابقة تُفضي إلى مرحلة لاحقة، وهذا التحقّق هو الذي يفتح الأفق نحو العبور إلى مرحلة جديدة أخرى بجدارة واستحقاق وكفاءة، فلا بدّ من اكتمال صورة الاجتياز على نحوٍ حاسمٍ وناجزٍ في كلّ مرحلة بعد استنفادها وتجاوزها واكتساب خبرتها، بحيث يأتي الانتقال نحو المرحلة الجديدة مشفوعاً بطاقة استعدادٍ عاليةٍ لبدايةٍ مختلفةٍ عن البداية الأولى، فضلاً عن استلهام منجزات ما سبق وتوظيفه بأعلى قَدرٍ من الخصب والمعرفة والوعي والقدرة حتّى تصل الإفادة أبلغ درجاتها في سلّم الإنجاز والإبداع والابتكار.
المرحلة الأولى هي (مرحلة المحاولة) التي تحتمل النجاح والإخفاق، فإذا أخفقت عادت مرّة أخرى إلى نقطة الصفر وبدأت من جديد إلى أن تصل في آخر محاولة درجةَ النجاح، أمّا حين تنجح من المحاولة الأولى فإنّها تتأهل مباشرةً للانتقال نحو المرحلة الثانية الموصوفة (مرحلة التجريب)، وفي مرحلة التجريب ترتفع نسبة النجاح إلى مستويات جديدة قياساً بنسبة الإخفاق على نحو يجعل من مرحلة التجريب مرحلة بالغة الأهميّة، لأنّها تتجاوز مرحلةَ تساوي فرص النجاح والإخفاق وتتوغل في فضاء النجاح بدرجات أعلى وأشمل، وصولاً إلى (مرحلة الإيجاد) التي لا يصلها إلّا أولئك الذين يتربعّون على عروش فنونهم باقتدارٍ عالٍ، لا يتكرّرون بسهولة وهم يمسكون جمرة المعرفة بيدينِ من ندى وضوءٍ، فالإيجاد هو نجاح مطلق مضمون بما تتحلّى به المرحلة من طاقةِ ابتكارٍ خلّاقةٍ قادرةٍ على الاستمرار والتجدّد والتقدّم والخلود، وهي تحتوي المراحل جميعاً وتختتمها في صياغة مختلفة ومغايرة لا تتاح سوى لأولئك الذين بوسعهم التقاط بريق النجوم من حضن السماء في لحظة غامضة خاطفة.