كيف عمل تشرشل وستالين ضد هتلر؟

بانوراما 2020/12/06
...

 وورفير هستوري نتوورك  
  ترجمة: مي اسماعيل 
في مذكراته، وجه ونستون تشرشل انتقادا للزعيم السوفيتي جوزيف ستالين وحكومته التي فشلت بتوقع عملية “بارباروسا”؛ الغزو النازي للاراضي السوفيتية منذ 22 حزيران 1941، فرغم عمل الاثنين ضد عدو مشترك؛ لكنهما لم يثقا ببعضهما البعضن كتب تشرشل يقول: “علينا الآن كشف خطأ وغرور الحسابات الباردة للحكومة السوفياتية والآلة الشيوعية الهائلة، وجهلهم المفرط بموقعهم الحقيقي؛ فلقد أظهروا لا مبالاة تامة بمصير القوى الغربية، الحرب غالبا سجل للأخطاء الفادحة؛ لكن عموما لا يوجد في التاريخ ما يضاهي أخطاء ستالين والقادة السوفيت، إذ أظهروا أنهم أكثر الفاشلين براعة في الحرب العالمية الثانية، في ما يتعلق بالستراتيجية والسياسة والبصيرة والكفاءة”، ووصف سرا ستالين وأتباعه في الكرملين بأنهم “حمقى”. 
كان تشرشل يكثر دائما من انتقاد البلاشفة؛ وقد حاول جاهدا بوصفه وزيرا للحرب والطيران في حكومة رئيس الوزراء لويد جورج الائتلافية (وتزامنا مع مؤتمر باريس للسلام في حزيران سنة 1919) إقناع نظرائه الوزراء للسماح لقوات الجنرال “أدموند آيرونسايد” المعززة في شمال روسيا بشن هجوم ضد البلاشفة، لم يتوان تشرشل بالهجوم على البلاشفة، منذ تسلمه منصب وزير الحرب قبل ستة أشهر من ذلك التاريخ، ولم يتزحزح عن اعتقاده أن النظام البلشفي خان الحلفاء بعقد سلام منفرد مع القيصر الالماني فيلهلم الثاني في آذار 1918، وكان من النتائج السريعة لذلك الاتفاق تحرير أعداد كبيرة من الجنود الألمان ونقلهم للجبهة الغربية بحيث استؤنف فورا هجوم الجنرال “إريك لودندورف”، الذي سُمي بمعركة الإمبراطور، وخلال أقل من اربعة أشهر نُقل ما مجموعه 34 فرقة ألمانية من الجبهة الشرقية ورومانيا لتعزيز ذلك الهجوم؛ مما كاد يودي بالقوة العسكرية للتحالف البريطاني- الفرنسي. الآن؛ وبعد انتهاء الاعمال العدائية؛ جادل تشرشل بقوة لإحداث تغيير شامل لنظام روسيا ما بعد الثورة. وكان حينها يشير لثورة لينين بقوله.. “بكتيريا الطاعون البلشفية” التي كانت قادرة على تحطيم الحضارة! 
شكوك متبادلة
لكونه سياسيا محنكا؛ عانى تشرشل من تبعات موقفه المتشدد تجاه الحكومة السوفيتية مباشرة بعد الحرب العالمية الأولى، إذ تسبب بالتوتر داخل الحزب الليبرالي، وشعر رئيس الوزراء الليبرالي لويد جورج وحكومته الائتلافية بعد الحرب بالسخط على وزير الحرب؛ الذي كان يدعو بصخب للمزيد من القتال بعد أربع سنوات من كارثة انتهت للتو! وأرادت حكومته (التي أنهكتها الحرب) السلام بشدة بعد توقف إراقة الدماء في تشرين الثاني 1918. 
رغم امتلاكه اكثر شبكات المخابرات انتشارا في العالم حينها؛ فوجئ ستالين بالغزو النازي لأوروبا في حزيران 1941. وتزامن هذا الخلل الذي لا يمكن تفسيره في شخصية ستالين الماكرة والمتشككة مع عمليات التطهير شبه المستمرة بين صفوف ضباط الجيش الاحمر منذ أواخر الثلاثينات، أبعد أو اعتقل بموجبها نحو 35 ألف ضابط من ذوي الرتب العالية. وعلى النقيض تماما كان لتشرشل قدرة شبه استثانية لتوقع الخطوة القادمة من عدوه (هتلر) بعد عقود من التسوية والمصالحة خلال الثلاثينات، وفي الواقع حذرت المخابرات البريطانية من غزو هتلر الوشيك قبل أسابيع من وقوعه، ونقل تشرشل تلك التوقعات (قبل التحذير) الى ستالين بواسطة السفير البريطاني بموسكو. لكن ستالين شكك بصحة رسالة تشرشل؛ التي كانت الرسالة الوحيدة المباشرة بين الاثنين قبل الهجوم الألماني. امتعض تشرشل لاهمال رسالته، وأن ستالين فقد جزءا كبيرا من قوته الجوية على الارض جراء عدم تصديقه للرسالة. كما حذر ضباط الاركان (أواخر أيار 1941) أن الألمان يحشدون جيوشا وقوة جوية كبيرة ضد روسيا، وسيطالبون بتنازلات كبيرة مقابل ذلك. فاذا رفض الروس سيتم الهجوم. وفي حزيران تأكد عزم هتلر على الهجوم، فلماذا شكك ستالين بالمعلومات الاستخبارية المرسلة عبر القنوات البريطانية؟ 
أخطاء في الحسابات
كان ستالين قلقا (قبل التحشيد الالماني ضد روسيا) من محاولة بريطانيا عقد معاهدة سلام مع هتلر؛ بعد اقاويل من “ستافورد غريبس” السفير البريطاني لدى موسكو عن مثل هذا الاحتمال (مُقترحا من بعض الاوساط الالمانية). تزامن ذلك مع محاولة تشرشل لاقناع ستالين بتشكيل “جبهة البلقان” ضد هتلر؛ بتحالف روسي مع يوغوسلافيا واليونان، لذا تصاعدت شكوك ستالين بعد التحذير البريطاني؛ وقادته للافتراض التالي: “نحن نخضع للتهديد بالألمان، والالمان يجري تهديدهم بالاتحاد السوفيتي، وهم (البريطانيون) يلعبون على الطرفين ويحركون أحدنا ضد الاخر. وهذه لعبة سياسية خفية”. افترض ستالين أن تشرشل كان يحاول فقط استدراج السوفيت لخوض حرب ضد ألمانيا، واستنادا الى هذا المستوى من عدم الثقة؛ لا عجب أنه تجاهل التحذيرات البريطانية وحافظ على شك عميق تجاه تشرشل حتى بعد بدء الغزو الالماني (عملية بارباروسا). استمرت وكالة تاس الاخبارية السوفيتية حتى أواسط حزيران 1941 بشجب البريطانيين لترويجهم شائعات عن اندلاع وشيك للأعمال العدائية بين الروس وألمانيا؛ رغم تمرير معلومات مؤكدة الى السفير السوفيتي بلندن “ايفان مايسكي” الذي ارسلها بدوره الى موسكو. 
بعد بدء الغزو الألماني عرف الزعيم السوفيتي أنه ارتكب خطأ دبلوماسيا هائلا في الحسابات، وانه فشل في قراءة نوايا هتلر؛ وهذا كان خطأه الذاتي. في هذا الوقت كان تشرشل يقوم بأولى مفاتحاته نحو التحالف مع الزعيم السوفيتي؛ الذي تخوف فعليا من تمرد ضباطه منذ الايام الاولى للغزو الالماني. وعندما وصل اوائل الدبلوماسيين البريطانيين الى موسكو؛ وجدوا ستالين.. “سريع الانفعال وتحت ضغط كبير..”. لكن القادة البريطانيين والاميركان وصفوه بعد اشهر قليلة بأنه “ذو عقلية لامعة، سريع الفكر والجواب، وقائد عظيم لا يرحم”. ووجد رئيس هيئة الأركان العامة الإمبراطورية البريطانية الجنرال “الان بروك” في ستالين.. “عقلية عسكرية من اعلى طراز” وبذا كان على تشرشل أن يكتسب مثل هذا الخصم ليكون حليفه. تجاهل تشرشل مؤقتا الاختلافات الايدولوجية بينه وبين ستالين، حينما أصبحت الضرورة العملية لتحالفهما أمرا ضروريا لبقاء بريطانيا، من وجهة النظر الانتهازية كانت بريطانيا تكسب كل شيء ولا تخسر شيئا تقريبا بالتحالف مع ستالين؛ وكما اعلن تشرشل في خطابه يوم 22 حزيران 1941؛ أن غزو روسيا.. “ما هو الا مقدمة لمحاولة غزو الجزر البريطانية”. 
حلفاء ولكن
قدمت عملية بارباروسا حليفا فوريا لتشرشل؛ مما قد يسهم باحتواء المد الالماني ويخفف الضغط عن قوات الحلفاء في الشرق الاوسط، ويسهم بإبقاء قناة السويس وحقول نفط العراق تحت السيطرة البريطانية. أولا جادل البعض أن المنفعة العسكرية والحاجة للتخفيف من قبضة الكماشة النازية بمناطق شمال أفريقيا والبلقان هي التي ساقت تشرشل لتقديم دعمه العاجل والكامل للشعب الروسي؛ وبالتالي لنظام ستالين. وثانيا؛ وبغياب أي نصر كبير منظور في أوروبا وبالانسحاب من شمال أفريقيا؛ كان من المشكوك، به أن يحافظ تشرشل على تحالفاته بمجلس العموم ويحظى بتأييد الشعب البريطاني. وبغزو هتلر للاتحاد السوفيتي كانت القوة الالمانية ستواجه “صراعا مسلحا عملاقا في سهول غرب روسيا الشاسعة”؛ مما سيدعم محاولة بريطانيا الضعيفة حتى ذلك الحين بدرء الخطر الالماني عنها. تمثلت معضلة تشرشل ما اذا كان على مناهضي البلشفية، أن يهبوا لاسناد ستالين؛ ولكونه دارسا للتاريخ آمن أن الغزو النازي لروسيا سيكون بالنسبة لهتلر ما كان عليه الحال بالنسبة لنابليون سنة 1812: خطأ عسكري فادح. 
رغم استطاعته أن يكون ميكافيليا؛ استمر تشرشل بالتمييز المتضاد بين الشعب الروسي والنظام السوفيتي، مما أشعره بالغيظ تجاه عناد ستالين وعدم امتنانه. قال لسكرتيره (حينما القى خطابا أمام مجلس العموم يوم الغزو الألماني لروسيا): “لا هدف لي الا تدمير هتلر، وحينها ستكون حياتي أكثر سهولة. ولو غزا هتلر الجحيم؛ فسأذكر الشيطان ولو بإشارة إيجابية على الأقل في مجلس العموم”.. وهكذا قاد هتلر؛ في واحدة من حماقاته الاكثر شهرة؛ ستالين الى احضان تشرشل، الذي قرر أن يخطو الخطوة الاولى لتأسيس علاقات أكثر ودية مع الزعيم السوفيتي. وهكذا ارسل (يوم 7 تموز 1941) الى ستالين موضحا أن الدعم البريطاني للسوفيت سيكون أساسا بصيغة القصف الجوي لألمانيا. لكن ستالين أصر (عند استلامه الرسالة) أن اتفاقا بريطانيا- سوفيتيا يجب أن يحوي فقرتين: المساعدة المتبادلة خلال الحرب والالتزام بعدم توقيع معاهدة سلام منفصلة مع المانيا؛ واعلن صراحة انه يطالب باتفاق رسمي مع بريطانيا.. “لتهدئة شكوكه المستمرة أن تشرشل يريد أن يقف جانبا بينما تدمر ألمانيا وروسيا بعضهما البعض”. وبناء على ذلك جرى توقيع اتفاق للتعاون العسكري المشترك بين الطرفين؛ وفق وجهة النظر البريطانية (رغم الشكوك المتبادلة): “اذا هُزمت روسيا، فكيف ستنتصر بريطانيا؟”. 
رغم جميع الشكوك؛ عمل ستالين وتشرشل معا في مجالات اخرى؛ كان منها التعاون بعد قمع ثورة رشيد عالي المؤيدة لألمانيا في العراق (حزيران 1941)؛ وظهور شكوك بوقوع أحداث مماثلة في ايران؛ إثر فرار رشيد عالي ومفتي القدس ومؤيدوهم الى ايران بعد فشل تحركاتهم. بحلول نهاية تموز 1941 قرر تشرشل أن على بريطانيا وروسيا التعاون لتأمين ايران وامدادات نفطها لصالح الحلفاء، وخلق مسارات برية لتموين الاتحاد السوفيتي، لذا؛ اعلنت بريطانيا يوم 6 كانون الاول 1941 (بناء على طلب ستالين) الحرب على فنلندا وهنغاريا ورومانيا؛ الذين كانت قواتهم تحارب السوفييت. 
 
مجلة “ذا ناشيونال انترست”