كيف صار بوتين بعبع الغرب؟

بانوراما 2020/12/13
...

 ديمتري سيمس
 ترجمة: بهاء سلمان
قبل عدة أسابيع، قدّم عضو ينتمي لأحد الأحزاب الحاكمة في روسيا تعديلا دستوريا لأجل «اعادة تركيب» الفترة الرئاسية لفلاديمير بوتين، التي يمكن أن تبقيه على رأس السلطة لغاية 2036؛ وهو فعليا ثاني أطول حاكم يتزعّم روسيا في العصر الحديث، ويأتي قبله جوزيف ستالين فقط. وخلال العقدين الماضيين، صار بوتين مصدر قلق بالنسبة للعالم الغربي، واضعا نفسه كأحد أكبر أعدائه الجيوسياسيين والايديولوجيين. وذهب بعض السياسيين والمحللين الى أبعد من ذلك، ليتّهموا الرئيس الروسي بشن حملة عالمية عنيفة لتقويض جوهر البنية التحتية للديمقراطيات التحررية الغربية.
 
التقرّب من الغربيين
بيد أن بوتين لم يعد ذلك الشخص العدواني للغرب أو لليبرالية، كما كان سابقا. فخلال السنوات التي تلت سقوط الاتحاد السوفيتي مباشرة، عمل بوتين نائبا لأحد أبرز الاصلاحيين السياسيين الروس، وهو عمدة سانت بطرسبيرغ اناتولي سوبتشاك. وكان عمل الرئيس المقبل على مساعدة المستثمرين الأجانب، قد قرّبه جدا من الدبلوماسيين ورجال الأعمال الغربيين داخل المدينة، الذين وجدوه حلال مشكلات ودي.
هكذا، قضى بوتين بضع سنوات من الفترة الأكثر تحوّلا ضمن تأريخ بلاده الحديث، في بناء جسور مع الغرب، ومكافحة عودة الماضي السوفيتي. وهناك دليل ما، على أقل تقدير، يوحي بكون تصرفاته قد دعمت بمعتقد راسخ، فخلال أول لقاء صحفي له سنة 1991، تحدث بوتين الذي كان عمره 39 عاما آنذاك بحماس في الدفاع عن الديمقراطية.
قال بوتين: «يبدو لجميعنا، وأنا أحيانا أعتقد بهذه الطريقة أيضا، أنه لو قام أحدهم باقامة نظام صارم بقبضبته الحديدية، حينها ستصير الحياة مريحة وآمنة بشكل أكبر. في الواقع، هذه الراحة ستتلاشى بسرعة كبيرة، لأن القبضة الحديدية سرعان ما ستشرع بشنقنا، وسنشعر بهذا الأمر بعجالة شديدة داخل أنفسنا وداخل أسرنا.»
خلال العام 1990، بعد مرور عام على سقوط جدار برلين، عاد بوتين من سني العمل لدى جهاز المخابرات السوفيتي في المانيا الشرقية الى مسقط رأسه مدينة لينينغراد. هنا حيث اتصل جاسوس المخابرات الشاب بسوبتشاك، أحد أساتذته القدامى بكلية القانون، والمعارض النابض بالحيوية للنظام السوفيتي وأول عمدة منتخب لمدنية لينينغراد ديمقراطيا.
 
معارضة الرجعية
في آب 1991، أقدم أفراد من التيار المتشدد داخل القيادة السوفيتية، مدعومين من قبل المخابرات والجيش، على تنفيذ انقلاب، كمحاولة أخيرة للوقوف بوجه الاصلاحات السياسية التدريجية المفعّلة من قبل الزعيم السوفيتي ميخائيل غورباتشوف. تعهّد سوبتشاك وبوتين بالتصدي للمد الرجعي، لينظما معا تجمعا حاشدا داخل سانت بطرسبيرغ للاحتجاج على الانقلاب، موظفين محطات التلفزيون المحلية لإيضاح النظرة الأكثر اعتدالا تجاه التوجهات المتشددة المخالفة لهم، ألقى كل من سوبتشاك وبوتين خطابات حماسية؛ وفي نهاية المطاف، انتصر الجانب المناصر للديمقراطية، ودفع الانقلابيون ثمن ما أقدموا عليه من خطوة سياسية مغامرة، وبعد عدة شهور من ذلك الانقلاب الفاشل، أنزل علم المطرقة والمنجل السوفيتي للمرة الأخيرة من مبنى الكرملين، مع تهاوي الامبراطورية وتفككها الى دول متعددة.
مع دخول سانت بطرسبيرغ عهدا جديدا، كلّف سوبتشاك بوتين بمهمة جلب الاستثمارات الأجنبية الى المدينة، ومن خلال هذا الدور، نمّى المسؤول الشاب علاقات طيّبة مع الدبلوماسيين ورجال الأعمال الغربيين في سانت بطرسبيرغ. يقول جون مارشال ايفانز، القنصل العام للولايات المتحدة في سانت بطرسبيرغ من 1994 لغاية 1997: «بدا الأمر لنا أن بوتين استوعب انتهاء النظام القديم الى الأبد، وأن روسيا جديدة يتم تشييدها. رجال الأعمال الأميركان الذين كنا نعرفهم قالوا بشكل موحّد أن بوتين جدير بالثقة، وأنه لم يطلب الرشوة، وشعروا أنه شخص صلب.» 
 
تغيّر الأوضاع
لكن، وبينما كان الغربيون المقيمون في سانت بطرسبيرغ متحمسين إزاء بوتين، كان ناخبو المدينة لا يشعرون براحة كبيرة تجاه رئيسه، فقد وجد سوبتشاك نفسه تحت مطرقة الانتقاد على أثر المحن الاقتصادية المتزايدة والجريمة المتصاعدة داخل المدينة؛ ليخرج الناخبون سنة 1996 كلا من سوبتشاك وبوتين من دائرة السلطة في المدينة.
لم يجد بوتين نفسه عاطلا عن العمل لمدة طويلة، رغم ما حصل، فقد عرضت عليه وظيفة في الكرملين، وسرعان ما ترقى المناصب العليا. أما الآن، فإن الرجل الذي كان سابقا يعكس النقاط المعيارية لليبرالية يسخر منها حاليا، بوصفها أنها «عفا عنها الزمن». ومن خلال وظيفته كرئيس لدولة عظمى، قام بوتين بتقوية دور الدولة في الاقتصاد والحياة السياسية، حيث يتهمه المنتقدون بتراجع الحريات المدنية وحصر الثروة بيد قلة قليلة.
إذن، ما الذي غيّر عقلية الرئيس الروسي؟ وهناك من يلقي اللوم على عقد التسعينيات. فقد أقر بوتين بعد سنوات بأن تجربة مدينة سانت بطرسبيرغ مع الديمقراطية البرلمانية قد «استحالت الى رعب لا متناه»، مع تنازع النواب بلا نهاية في ما بينهم. وبالنسبة لنزعته في التقرّب من الغرب، فخلال وقت مبكر من فترة حكمه، سعى بوتين الى بناء شراكة مع الولايات المتحدة، مستندة الى أساس المصالح المشتركة لمحاربة الارهاب. لكن ومنذ العام 2005، تزايدت لديه حالة خيبة الأمل تجاه ادارة الرئيس بوش في الكثير من القضايا المهمة، مثل الخروج من اتفاقية السيطرة على السلاح والحرب على العراق وتوسيع حلف الناتو. ومع دعم الولايات المتحدة لحكومات الدول السابقة ضمن الاتحاد السوفيتي، المؤيدة للغرب والمناهضة للكرملين، تغيّر موقف بوتين، فبعد تلك المواقف، لم يسعه أن يبقى حليفا للغرب بسبب تعرّض مصالحه للضرر.
مجلة اوزي الأميركية