الحـــارس

ثقافة 2019/01/26
...

هدية حسين
 

إذا لم يكن الحارس موجوداً، الرجاء دفع الأجرة في الكشك، أمانتك هي موضع ثقتنا بك" تواجهك هذه العبارة قبل أن تخطو الى متنزه البحيرة، ولما لم أجد الحارس الذي يفترض أن يكون عند المدخل رحت أبحث عن مكان الكشك، فلم أجده أيضاً، ولم أشأ الدخول الى المتنزه من دون دفع الأجرة.
 ثمة شاب قوي البنية يدفع عربة ويجز العشب، سرت باتجاهه، صوتي ضاع في زمجرة العربة، ولما انتبه لوجودي أوقفها:
ـ مرحباً.
ـ مرحباً.
ـ هل تعرف أين يمكنني أن أجد الحارس؟
ـ لا أدري.
قالها وواصل عمله.. وقبل الدخول الى البوابة شاهدت امرأة تخرج من المتنزه، تقول كلاماً فيه نبرة استياء بلغة لم أفهمها، تجاوزتها ومضيت، وقلت لنفسي: إن لم أجد الحارس فسأدفع الأجرة في الكشك بعد الخروج من المتنزه.
في هذه اللحظة وأنا أنزل درجات السلم الطويل، النازل حيث ينفرش المتنزه جوار البحيرة، رأيت رجلاً يهم بالصعود، قلت لعله الحارس، فاستوقفته: 
ـ مرحباً.
ـ مرحباً.
ـ أريد أن أدفع أجرة الدخول، فأين يمكنني أن أجد الحارس؟
ـ آ... أنا الحارس.
ـ كم الأجرة من فضلك؟
لم يحدد مبلغاً كما يُفترض، بل قال:
ـ أي مبلغ تقدرين عليه.
ـ لا أعرف بالضبط، خمسة دولارات أم عشرة؟
ـ خمسة عشر إذا كانت لديكِ سيارة مركونة في الكراج.
ـ لا ليست معي سيارة.
ـ إذن عشرة دولارات، وإذا أردتِ التبرع يمكنك دفع ما تقدرين عليه.
وحين نقدته المبلغ من دون زيادة قال: 
ـ أمانتك موضع ثقتنا.
 لم أكن قد أخذت إجازة من العمل منذ فترة طويلة، لذلك كنت متعبة جداً وجئت الى هذا المكان لاستعادة حيويتي بعد أن سمعت عنه، وقضيت ثلاث ساعات من التأمل أمام البحيرة، هدوء وسط عالم يمنح السكينة، ثم تجولت في ممراته، لا أسمع سوى زقزقة العصافير، ولا أرى غير الورود بكل أنواعها والأشجار العملاقة المعمرة، كل شجرة تحكي تاريخاً راسخاً في الأرض وتخبئ حكايات مبهمة، وصوت خرير المياه من الجداول يمنحك إحساساً بتدفق الحياة من حولك، ثمة قناطر من جذوع الأشجار ودرجات حجرية تصعد الى زوايا أخر لتريك الطبيعة البكر التي يأبى القائمون على المتنزه تنسيقها، هكذا أريد لها أن تأخذ حريتها بالتمدد والعلو، وإذا ما شعرت بالتعب بعد التجوال، فهناك مصاطب خشبية لها رائحة زمن عتيق  لا يزال يتنفس تقودك الى عالم من التناغم مع جمال الطبيعة.
 وأنا أهم بالخروج، نادى عليّ رجل، التفتُ نحوه فقال: 
ـ سيدتي، ادفعي الأجرة قبل الخروج.
قلت مبتسمة:
ـ لقد دفعتها للحارس حين دخلت.
قال محتجاً:
ـ هل تمزحين، أي حارس؟ 
ـ رجل كان يصعد السلالم، هناك.
وأشرت الى مكان النزول.. فقال:
ـ أنا الحارس ومن العيب أن تخوني الأمانة.
قلت بغضب:
ـ لن أدفع ثانية.
وبنبرة تهديد قال:
 ـ عليك الدفع، وإلا سأستدعي البوليس.
في تلك اللحظة بدت لي ملامحه عصية على الفهم، لا إدري إن كان صادقاً أم كاذباً، لكنني، عند كلمة البوليس تراجعت، وأعدت الى وجهي ابتسامته فدفعت المبلغ، وطيلة طريق العودة كنت أتساءل: أيهما الحارس وأيهما اللص؟