زمنُ التجريبِ المسرحي عراقياً ... ملامحُ التسعينيات

ثقافة 2019/01/26
...

كاظم النصّار
 

منذ التغيير وسنواته لم نجر مناقشةً جادة لثقافة العرض المسرحي العراقي لقد شغلتنا ازمة المسرح وواقعه ومشكلاته وانعكاس التحولات السياسية والمجتمعية على مجمل الاوضاع وندوة أو بحثا تخصصيا عن التجريب وازمانه في العراق ظلت محصورة في داخل اسوار الدرس الاكاديمي. 
والتجريبُ هو ثقافة وفهمٌ مبتكرٌ لآليات العرض المسرحي وطرائقه واساليبه وهو ايضا كل جديد على مستوى الشكل والمضمون كما يقول الشاعر والمخرج  نجيب سرور، والتجريبُ هو بحثٌ في المجهول وخروجٌ عن المألوف السائد وقد ورثناه من تاريخ المسرح حيث يعتني ستانسلافسكي باهمية الممثل واعتنى كوردن كريج باهمية ان الاستغناء عن الممثل ممكنا، واعتنى ابيا بالضوء كما اعتنى بسكاتور وبريشت بالمسرح التعليمي ....

 احاول هنا ان انقب عن تجربتنا ما بعد منتصف الثمانينيات من زوايا مختلفة واطرح اسئلة لان التجريب هو سؤال دائم من خلال معيار ذوقي جمالي وليس معيارا اكاديميا علميا ...واذن ماهو معيار الجديد ؟ ومن هو الذي يقرر الجديد؟ وهل حراكنا النقدي استطاع ان يحدد الثابت من المتحول ؟
ما دور النقد والصحافة في تأشير غير منحاز ولايسهم في خلط اوراق التجريب وسماته وملامحه، وهل يمكن للفنان ان يكون شاهد زور ويلعب دور المروج والخالط للاوراق لاعتبارات اجتماعية وذوقية وايديولوجية تضيع الروح الموضوعية والمعاينة الحقة حد الاختلاف؟ 
ومن هنا وبالفهم العام للتجريب ليس هناك فصل حاد بيننا نحن الاجيال المتأخرة وبين روادنا واجيالهم لانهم هم من درسونا المناهج والاساليب وهم من اشاعوا عبر عروضهم ودرسهم الاكاديمي اسرار وخفايا التجريب وكيميائه ...لكن الاختلاف يكمن في المزاج والعوامل الضاغطة الزمنية التي حكمت عقدين واكثر من الزمن الذي انتجنا فيه عروضنا. 
واعتقد كمراقب اننا كلنا وكل المسرح العراقي المعاصر هو نتاج ست مدارس مسرحية عالمية وهي :
اولا :مرحلة التأسيس مدرسة فرنسا حقي الشبلي 
ثانيا :مدرسة اميركا: ابراهيم جلال وبدري حسون فريد وجعفر السعدي 
ثالثا: مدرسة لندن: سامي عبد الحميد 
رابعا :مدرسة روسيا: قاسم محمد 
خامسا: مدرسة المانيا عوني كرومي 
سادسا: مدرسة اوروبا الشرقية فاضل خليل وصلاح القصب وعقيل مهدي 
وهذه المدارس اضحت مادة للدرس الاكاديمي وتنوعه واختلافه، كما انتجت عروضا مختلفة...وأقول ست مدارس، لأن بلاد المغرب العربي مثل تونس والمغرب تطغى على عروضهم المدرسة الفرنسية لوحدها ربما ...وكمعيار جمالي اعتقد ان هذه المدارس اختزلت لاحقا بمنهحين وملمحين هما: 
اولا: مدرسة الممثل :قاسم محمد وفاضل خليل وعوني كرومي وعزيز خيون 
وثانيا: مدرسة العرض والمعمار البصري في عروض ابراهيم جلال وسامي عبد الحميد وصلاح القصب وجواد الاسدي 
واما النقد والبحث فقد افرز طرق تفكير واليات اشتغال وتوصيفات للمخرجين، فسامي عبد الحميد يمثل انتقائية اسلوبية وفي عروضه عطيل في المطبخ مثلا كانت قد مثلت انتقالة تجريبية للاشتغال على النص الشكسبيري وتطويعه ومقاربته مع الواقع العراقي ايام الحصار والجوع. 
وانتقالة اخرى في الى اشعار اخر ونصوص عبد الكريم السوداني ساعي البريد وغيرها وهي تمثل قراءة مبتكرة للواقع العراقي عبر النص المحلي المكتوب باللهجة المحكية والقريب من نكبات الشارع .....
وقاسم محمد وانفتاحه على التراث العربي والاسلامي من خلال الحكواتي وخيال الظل والصوفيات 
وصلاح القصب في ازاحته للاشكال الواقعية ومحسن العزاوي وفاضل خليل في الشعرية والاسطورة 
وعزيز خيون عبر التجريب في النص المحلي ونسق الاداء. 
وهنا اعود الى الضاغط الرؤيوي والذي عمل تحولا في رؤية المخرجين وبالتالي تحول في الأساليب واعتقد ان مفتاح التحول لديهم ليس كنا يشاع لأن جودة الانتاج ممكن ان تحسن من الشكل، لكنها لاتحسن من الرؤيا وحتى التجربة العالمية، فالبلدان التي حدثت فيها هزات مثل فرنسا وروسيا وايرلندا صار فيها تحولا في الرؤية تحول مثل الحرب العالمية الثانية ....بمعنى ان مفتاح التحول هو تحول اجتماعي وسياسي والذي انتج اشكالا جديدة مثل المسرح السياسي ومسرح الغضب والمسرح التسجيلي ..وفي المانيا صار هناك تحول على يد بيسكاتور وبعده بريخت ثم بيتر فايس فانتج .
بسكاتور التاريخ والوثيقة 
بريخت الحالة العقلية 
بيتر فايس منطق البناء السينمائي 
واذا سحبنا فرضية ان التحول السياسي يخلق تحولا في الرؤية والمزاج وفي التفكير وفحصنا المناخ المحيط الذي شكل تجربة اجيال الثمانينيات والتسعينات وماتلاها ماذا نجد؟ 
اولا : 8 سنوات حرب انتجت مسرح الحرب ومسرح مابعد الحرب 
ثانيا :حصار13عاما 
ثالثا :هيمنة المسرح التجاري وانحسار العروض الجادة 
رابعا :تراجع قيمي وانحسار للتقاليد المسرحية وانشغال بالدراما التلفزيونية وخاصة البدوية الاستهلاكية منها في التسعينات والدراما في سوريا بعد 2006 
خامسا :شح الممثلات وتراجع دورهن وخاصة بعد2003 وهنا اريد ان اقول ان المسرح العراقي المعاصر ومنذ سبعين عاما لم يقدم وفرة من الممثلات، لاسيما ان المرأة هي شريك أساسي في التجريب ولأن الجسد المحنط لايمكن ان يذهب باتجاه المجعول وكسر التابو والمألوف. 
ومن زاوية ثانية فان الضاغط الرقابي للنص اوجد رد فعل قوي بالتوغل في المعالجة البصرية والغرائبية وكأنه ردٌ على سلب حرية المضمون ...وحتى المضمون كان يعالج عبر الترنيز والتشفير والدلالة عن نتائج الحرب وعن الاستبداد والتسلط والديكتاتورية، والمفارقة هنا وبعد 2003عندما انفلت زمام الرقابة وغابت هرول بعضنا الى المباشرة وتسمية الاشياء بمسمياتها، ولم تعد هناك تشفيرات او ترميزات ولم نعد نرى مقاربةً لنصوص اجنبية الا نادرا، فالملفات جميعها على الطاولة، لم تكن هناك فضائيات ولا تواصل اجتماعي ولا تقنيات حديثة ولايوتيوب والمخرج يعتمد على مايشاهده من عروض، حيثما توفرت ومصادر، وبقينا نتحدث طويلا عن عروض زارتنا في بغداد، عروض مختلفة وتجريبية مثل العوادة للجعايبي والخنفساء لفرقة فرنسية وعروض فرقة الرور الالمانية. 
ابرز ملامح مسرح التسعيينيات :
اولا:عناية بالسينوغرافيا وتطور مفهومها وتنافسه وصار يدخل في لون الازياء والماكياج لاحداث هارموني الشكل. 
ثانيا: الفنون الرديفة صارت تدخل في بنية العرض التسعيني مثل البانتومايم والكيروغراف كما في عرض "عرس الدم" لكاظم النصار وعروض اخرى. 
ثالثا: هناك عروض صارت تهمل النص الدرامي التقليدي وتذهب الى الشعر مثل عرض" الذي ظل في هذيانه يقظا" لغانم حميد. 
رابعا :صرنا نتعامل مع مسرحيات قصيرة جدا كما عند خزعل الماجدي وجبار المشهداني 
خامسا: الاستفادة من اعداد الروايات الحديثة كما عند كاظم النصار في رواية ولم يقل كلمة لهاينرش، بل اعداد عبد الخالق كيطان، وبعض عروض قاسم زيدان مع قاسم محمد عباس .
سادسا: البحث عن فضاءات خارج العلبة مثل ضفاف نهر دجلة اوبلاتوه السينما والمسرح او شارع المتنبي والقشلة لاحقا. 
وهناك اسماء بدأت منذ نهاية الثمانينيات واستمرت في عقد التسعينيات مثل ناجي عبد الامير وتجربته في التعبيرية المحلية وفي نصوص شكسبير والخادمات والحريم ........وباسم قهار في تجربته في انتظار غودو ومعالجته المبتمرة لهذا النص وهو يكشف عن وعي تجريبي مبكر وكذلك كريم رشيد وتجربته المميزة في الحر الرياحي .....وحيدر منعثر في استمرار تجاربه من الثمانينيات ليلة موت شاعر والليلة نلعب الى حرية المدينة والصابرون في تحولات التسعينيات وهو الأقرب للمسرح السياسي الرمزي ....ثم احمد حسن موسى في تجاربه ضحايا الواجب وسمفونية الانتظار ونزهة في جماليات الاداء والشكل ....وقاسم زيدان في الطيور ايضا في البحث عن المكان وفيه .....
ثم جيل جديد واشتغالات تنبثق من محنة الارهاب والعنف والتحول السياسي بعد 2003مثل جبار جودي في تجاربه سجادة حمراء وخيانة وحصان الدم ...ومناضل داود في روميو وجوليت في التصارع السياسي والعنفي العراقي ثم تجارب ابراهيم حنون في الموت والعذراء  وغيرها ثم حاتم عودة في اسود وابيض وفلانة ...وعماد محمد في رائحة حرب وعربانة وقاسم السومري وعلاء قحطان وتحرير الاسدي ....
وافرزت مرحلة مابعد 2003ملامح اخرى مثل :
اولا: انزياح الخكاب الرمزي والشعري 
ثانيا: بروز الشخصية الهامشية 
ثالثا: بروز عروض الكوميديا السوداء 
رابعا: بحث خارج العلبة من جديد 
ومن زاوية اخرى هناك فرق بين السياسة اليومية المتحركة والمتحولة وبين الظاهرة السياسية التي تكرست مثل العنف والارهاب والاقصاء السياسي والهجرة والديكتاتورية وطبعا المخرج هنا يقدم رؤية لتلك الظواهر ولايقدم بلاغا صحفيا كما في بعض العروض لان المشاهد يريد ان يعرف كيف تنظر انت الى تلكم الظواهر وكيف تعالجها رؤيويا .
هذه بعض الملامح لمسرح ما بعد الحرب وماتلاها من مسرح مابعد التغيير املا أن افحص وانقب عن التجربة في مناسبات قادمة.