بساتين السماوة..تجريف واستصلاح سكني
ريبورتاج
2020/12/16
+A
-A
أحمد الفرطوسي
لم يكن الحاج سعد، البستاني الوحيد في محافظة المثنى الذي يشكو التجريف الذي تحول إلى ظاهرة مقلقة في البيئة الزراعية في السماوة؛ فلم يخطر ببال أحد أن يأتي اليوم الذي يشهد فيه زحف الجرافات على بستان النخيل، الذي غرست فيه الفسائل منذ أكثر من 50 سنة، عند تخوم مدينة السماوة؛ فبعد أن قرّر مالك البستان تقطيع أرضه وبيعها كأراضٍ سكنية بمساحات مختلفة، عندئذ لم يتبق للحاج سعد، سوى التحسر على ضياع تعب السنين وذكريات الفلاحة الأليمة.
التجريف المجحف والأدران المستديمة، إضافة إلى الإهمال المتعمد، للحد من عمليات التجريف المتعمد والبيع المباشر للبساتين، من أهم العوامل التي أسهمت بشكل مباشر في تراجع أعداد النخيل بمحافظة المثنى، ما أدى الى انحسار وتضاؤل الرقعة الجغرافية للبساتين، باستمرار ولغاية اليوم، لانتشال النخلة السماوية من الواقع المرير والانتهاكات المستمرة لشجرة باركها الله بنعمائه وانتهكها الإنسان بتصرفات، هدفها الربح السريع لأصحاب البساتين، على حساب شجرة لطالما اقترنت بشخصية الفرد العراقي في السمو والرفعة، من خلال نعتها بالشموخ والبسوق اللذين تتصف بهما النخلة العراقية.
هلاك نخلة
وقال البستاني سعد إرهيف عباس لـ"الصباح":" يعود سبب تراجع أعداد النخيل في المثنى إلى عدم الاهتمام والمداراة من قبل القطاع الحكومي بوقاية النخيل من الأمراض التي تصيبها، ومنها سرطان الجذع والقارور، إضافة إلى الحشرات".
وأضاف" كانت البساتين في السابق تعالج بواسطة الرش بالطيارات، بينما اختفت هذه الطريقة في الوقت الحالي" مشيراً إلى أن" الأمراض طالت حتى صغار النخيل، في حين تتعرض كبار النخيل إلى الهلاك، لعدم وصول المياه إليها".
ولفت إلى" أن الخطط الزراعية لم ترق إلى المستوى المطلوب"، منوهاً بأن "أعداد البساتين بدأت تتقلص وتتضاءل، بسبب زحف الأحياء السكنية على البساتين من خلال جرفها وصولاً إلى نهر الفرات".
وبيّن "البساتين في السماوة بدأت بالانحسار، وتقابل ذلك الإجراءات الروتينية في مديرية زراعة المثنى في التعامل مع المزارع أثناء مراجعته الدائرة"، لافتاً إلى أن" أغلب الفلاحين في البساتين لجؤوا للبحث عن وظائف مدنية لتردي الوضع المعيشي للفلاح ".
الأحزمة الخضراء
محمد عباس عبود باحث بيئي، أشار إلى" أن هناك جملة عوامل أثرت بشكل مباشر في تراجع أعداد النخيل في المحافظة أهمها، قلة عمليات المكافحة المستمرة وندرة الفسائل لتعويض النقص الحاصل في البساتين، إضافة إلى تعرية التربة بسبب الرياح الشديدة والأغبرة الترابية، فضلاً عن نوعية المياه" وأضاف " كذلك تعرضت مساحات شاسعة من البساتين في (المشواج) للإزالة والتجريف وتحويلها إلى مناطق صناعية" وبين عبود " أنه لم يؤثر تراجع أعداد النخيل في الجانب الاقتصادي فقط، بل أثر بشكل مباشر في البيئة"، متابعاً" كما تبرز أهمية البساتين، كونها تمثل أحزمة خضراء لمدينة السماوة التي تعاني من العواصف الترابية، وتسهم في تثبيت التربة وتحافظ على المساحات الخضراء وتزيد من جمال المدن وتوفر مساحات وأماكن ترفيهية للسكان المحليين".
بينما اشارالبروفيسور تركي مفتن سعد العارضي، التدريسي في جامعة المثنى الى:" عدم وجود برامج خاصة وواضحة لزراعة النخيل "، مضيفا "ان النخلة العراقية مهملة منذ مطلع الثمانينيات ولغاية الآن". لافتا إلى أن" أعداد النخيل في العراق تراجعت من 30 مليون نخلة إلى 10 ملايين نخلة خلال العشرين عاماً الماضية". وأفاد " فقد العراق 20 مليون نخلة خلال السنوات الماضية، بدلاً من مضاعفة أعدادها إلى 60 مليون نخلة" منوهاً"بضرورة دعم الفلاح ومتابعة مشاريع السلف والوقوف على كيفية استغلالها ".
وشدّد العارضي على" ضرورة وجود صيانة وعمليات تجديد لتعويض النخيل، إذ ان النخيل الموجودة حاليا أصبح عمرها كبيراً، ما يؤثر في انتاجية النخلة من التمور".
وكشف العارضي عن" عمل عمادة كلية الزراعة في الوقت الحالي على زيادة أصناف النخيل في المثنى من خلال إنشاء مشروع الزراعة النسيجية، المماثل لتجربة الإمارات العربية المتحدة".
صناعات
رئيس الاتحاد العام للجمعيات الفلاحية في المثنى، عواد عطشان الأعاجيبي بيّن لـ"الصباح": إن مساحة البساتين المزروعة بالنخيل في محافظة المثنى تقدر بـ(17) ألف دونم، وتضم تلك البساتين أصنافاً مميزة وجيدة من النخيل، أبرزها الشويثي والاستعمران والخضراوي والبريم والبلكة، وأنواع أخرى أقل تميزاً، تستخدم في صناعة الدبس والخل أو كأعلاف للحيوانات"، موضحاً" أن أغلب البساتين التي تعرضت للتجريف كانت تشكل أحزمة خضراء للمدن، كونها تقع في محيطها وطالها التوسع العمراني للمدن" .
ويشير الأعاجيبي إلى" أن التوسع العشوائي للمدن يجري بطرق غير مدروسة وغير قانونية"، لافتاً إلى" أن المشرع العراقي حرص على الحفاظ على النخيل؛ فالفلاح الذي يزرع الأرض بالنخيل يسمح له القانون بتملك تلك الأرض حتى لو كان متجاوزاً عليها، وذلك وفق ضوابط معينة تنسجم مع تعليمات رقم 25 وقانون 117".
وتابع" كما أنه وضع ضوابط تتضمن إلغاء ملكية العقار الزراعي في حال تم تغيير جنس الأرض من بساتين نخيل إلى دور سكنية".
ويعزو رئيس اتحاد الجمعيات الفلاحية أسباب لجوء الفلاحين إلى التفريط ببساتين النخيل وبيعها كقطع سكنية، إلى" المغريات المادية الكبيرة التي توفرها عملية بيع العقارات، وإلى فقدان الجدوى الاقتصادية لتلك البساتين، نتيجة الإهمال وانعدام الدعم الحكومي لأصحاب البساتين"، مشيراً إلى" أن سعر قطعة أرض سكنية صغيرة مقتطعة من بستان للنخيل، بات يتجاوز الـ 50 مليون دينار في بعض الأحيان، وهذا مبلغ كبير لا يحصل عليه الفلاح من واردات النخيل لو عمل فيها لعدّة سنين".
ويشير الأعاجيبي إلى" أن اتحاد الجمعيات الفلاحية، سبق وأن حذر الجهات المعنية بالحكومة المحلية من الآثار الاقتصادية والبيئية الناجمة عن تجريف بساتين النخيل"، مشدداً على" أهمية احترام عمّتنا النخلة التي قدستها الكتب السماوية والأنبياء والرسل". وأضاف" أثرنا الموضوع أمام مراجعنا في بغداد أكثر من مرة، لكن دون جدوى"، متابعاً" إن الحفاظ على بساتين النخيل واجب ومسؤولية جميع الجهات، كون بساتين النخيل واحدة من مقومات النشاط الاقتصادي في القطاع الزراعي".
نسب الملوحة
وعن أسباب التدهور الذي طال بساتين النخيل، قال رئيس الاتحاد العام للجمعيات الفلاحية:" إن من أبرز الأسباب التي أدت إلى الاضرار ببساتين النخيل، الارتفاع الكبير في نسبة الملوحة في مياه نهر الفرات المستخدمة في سقي النخيل، كون أغلب بساتين النخيل في المثنى تقع على عمود نهر الفرات، وهذا ما أدى إلى قلة انتاجها من التمور.
ويبيّن عطشان" إن الفلاحين ورغم التطور الكبير الذي شهده العالم، مازالوا يستخدمون الطرق البدائية واليدوية التي تعود لعصر السومريين في جني وتصنيع التمور ومكافحة حشرتي الدوباس والحميرة، والأمراض الأخرى التي تصيب اشجار النخيل"، مردفاً كلامه بالقول" إن البقاء على استخدام الطرق البدائية يحول دون تطور زراعة النخيل والارتقاء بصناعتها"، مؤكداً" حاجة المحافظة إلى مكننة حديثة للاهتمام بأشجار النخيل وجني محاصيل التمور ومكافحة الآفات الزراعية، فضلاً عن الحاجة إلى مكبس متطور لتعليب التمور وإلى معمل لصناعة الخل من التمور، والى شمول التمور بالدعم الحكومي اسوة بمحاصيل الحبوب من الحنطة والشعير والرز".
ويوضح " أن الدولة استثنت التمور من سياسة دعم المحاصيل الزراعية، وهو ما جعل الفلاحين يلجؤون إلى بيع محاصيلهم من التمور في الأسواق المحلية بأسعار واطئة لا تتناسب مع قيمتها الحقيقية، حتى بلغ سعر ( 75 كيلو غراماً ) من التمور المتوسطة النوعية 20 ألف دينار".
ويستطرد رئيس اتحاد الجمعيات الفلاحية في حديثه لـ"الصباح":" لقد تعذرت رعاية اشجار النخيل التي يزيد طولها على (3) أمتار ومكافحة الحشرات والأمراض التي تصيبها بالطرق البدائية"، مشيراً إلى" أن أطوال النخيل قد تبلغ (15) متراً في الكثير من البساتين، وهذا ما يجعلها لا تحظى بالاهتمام اللازم ويحول حتى دون تلقيحها وجني ثمارها في موسم القطاف"، منوهاً بأن "المراكز الإرشادية في المحافظة تفتقر هي الأخرى للمعدات الحديثة التي من شأنها أن تشجع الفلاحين على استخدامها في إدامة ورعاية بساتين النخيل"، داعياً إلى" إنشاء مراكز زراعية متخصصة لتطوير زراعة النخيل ودعم الفلاحين بالمكننة الزراعية المتطورة، فضلاً عن توفير الدعم المالي للفلاحين عبر القروض الميسرة والتسهيلات المصرفية التي لا تثقل كاهل الفلاحين".
من جانبه قال المهندس الزراعي حسين علي مهدي (مدير سابق لزراعة المثنى)" ان هناك إهمالا متعمدا من قبل أصحاب البساتين، لعرضها للبيع وتحويلها إلى أماكن سكنية" وأضاف" يشكل هذا الإجراء تهديدا صارخاً، لتضاؤل أعداد النخيل، ومردودا سلبيا لتعريض البيئة للدمار".
وأكد " ما زلنا نكافح أمراض الحميرة والعناكب بشكل مجاني، كما تم توزيع مادة الكبريت بأسعار رمزية"، مشدّداً" إذا لم تتخذ الدولة إجراءات حازمة للحد من بيع البساتين وتجريفها، لن يبقى لدينا بستان واحد في مدينة السماوة خلال الأعوام المقبلة".