الروائي والكاتب عارف علوان وصديقه

ثقافة 2019/01/26
...

جمال العتّابي
 
 
 في الصباح تتلون جدران الغرف التي يشغلها العاملون ، بأشعة الشمس التي تغزل ضفائرها فوق موجات دجلة الذاهب نحو الجنوب ، ونحن يلزمنا وقت لنغني للنهر والصحو والظلال الهائمة بين أشجار الكالبتوس والساحل الرملي ، في المساء تبدو أرصفة الشارع ملأى بمئات الشموع ، والسماء كالبلور، يرفّ فيها القمر وهو يخطّ على هالته شكل البلاد .
      منذ أوائل سبعينيات القرن المنصرم شغلت (مجلتي) و(المزمار) الطابقين السابع والثامن في عمارة (الروّاف) الجميلة والمطلّة على شارع أبي نواس ، انضم الكاتب والفنان عارف علوان إلى فريق العمل كمصمم ،ويومها كان المطبوعان - على قِصر التجربة – مثالين بالمعايشة الصافية ، بين العاملين ورئيس التحرير الشاب إبراهيم السعيد ، كانت التجربة مشروعاً يحمل أسباب نجاحه منذ لحظة ولادته في صحافة الطفولة العراقية ، تلك المتمثلة بالثراء الكامن في الروح العراقية ، وفي طاقات الكوكبة المبدعة من الرسامين والكتّاب ، تجمعهم حرارة الإخلاص والقدر الأوفى للعمل .
    حين نتجاور في المكان ، يفاجئني وجه عارف الدقيق الملامح، وشعره الكثيف المتناثر بعفوية على جبهته العريضة ، إذ لم يسعفه  النعاس الذي مازال عالقاً في عينيه بعد من تصفيفه، صوت هادئ النبرات رقيق ،في تقاسيم وجهه وجع مرّ من فرط الحزن المكتوم بخجل ، أتحايل فأقترب منه ، لأدخل مدائنه بسلام آمناً ، أراوغ من أجل أن أجلد الصمت والسكون المخيّم على الصالة منذ الصباح ، ماذا يخبئ هذا الشاب الرشيق من أسرار وهمهمات ؟ أتساءل مع نفسي، غير أن أبواب قلب عارف تنفتح تلقائياً ، حيثما تتصاعد أبخرة الشاي ، فلا شيء كالصمت قادرعلى خلق شعور بالفراغ ، سوى الشعور المعاكس من الود ، لأنه يضفي على المكان لوناً من ألوان الصوت المجسّد ، ويمدّنا بقدرات الذاكرة الثقافية التي ترفض أن يبقى باب المكان الأثير مغلقاً ،فبدأنا نشعر بمتعة الوجود معاً ، تقاربنا وتحاببنا ، واشد ما يغريني أن يخرج عارف من عزلته ، وتتحرك معنا موسيقى بمعادل هذا الداخل الذي يسمونه (القلب).
    في ضحى يوم بارد ، كنا قد خطونا خطواتنا الأولى نحو شارع السعدون ، ننعم بدفء الشمس ، كانت الصباحات مفعمة بوجد البنات ، والنوافذ مشرعة للطيور ، غير أن الشوارع يجتاحها (عسس) يقيم الحفلات ليحبس الكلام ، ويعيد عصر الظلام ، ويترصّد الجمال ، ويخطف المعاني والأحلام .
     لم يمضِ وقت طويل لاصطيادنا في فخ أقامه (والي بغداد) ،يستبيح فيه الورد وسيقان الصبايا الجميلات ، اقتادونا إلى قفص حديدي مخصص لنقل نزلاء السجون ، كأننا سبايا غزوات ، وحشرونا على جدرانه مابين حمّى الحقد وروح الإذلال ،هاهي بغداد بنادق وكمائن ، تمضي بنا المركبة نحو شرطة السراي على بعد خطوات من شارع المتنبي .
   في عيني عارف ذهول ، وفي صدره صرخة محبوسة ، هاهي بغداد تعيدنا لإرث الصحراء ، كانت الأيدي تلّوح بـ(المقصّات) لجزّ شعر رؤوس (الخنافس)الذين تطاولوا على أمن الدولة ، وتمادوا في إطلاق شعرهم ، كان المشهد اشبه بحفل (عرس) أقامه الغجر البائسون . دعوا رؤوسكم مطأطأة أيها (المتخنثون ) ، هكذا تتعالى أصواتهم مثل سياط التعذيب ، كان الصديق الكاتب جعفر ياسين قد سبقنا الى هذا (الحفل) ، ويومها تناقلت الصحافة احتجاجه الشجاع والمرّ: لو كنت أعرف ان شعر رأسي يقدّم حلاً لقضية فلسطين ، لقطعت رأسي من أجلها .
  في تلك الدقائق لم أغادر عيني عارف اللتين خفتَ الضوء فيهما ، وشحب وجهه ، وكأن الموت أسرعَ إليه مبتهجاً ، فتجشأ أيامه وهو يبصق على الأرض (تفو يازمن ..تفو يا بلد)!، موحش هذا الوطن ياصديقي ، خاطبني بنبوءة العارف :ستولد فيه الأوبئة، وتتسع فيه المقابر ، سيمر زمنه مابين حرب وحرب ، وموت بطيء ، وسيظل حزنه طالعاً من جذور نخيله ، يتوزع بين القبائل والطوائف ، ستكون أيامكم صاخبات ، تذكّر ذلك يا جمال ، لأنني سأغادره ، وأدع الوطن بانتصاراته الكاذبة غارقاً في وهم أمجاده الغاربة ..وداعاً .
     منذ تلك اللحظة رحل عارف ،وهجر الأماسي ،والأهل والأصدقاء والذكريات، كانت بيروت محطّته الأولى ، ومنها إلى المغرب ، ثم إيطاليا ، واستقر في إنكلترا عام 1990، كتب مسرحيات عدّة منها(هلاك بابل،لعبة المخدوعين،التتر قادمون،بحيرة كانجا)، وفي سنوات عمره الأخيرة كرّس جهده للرواية فكتب(محطة النهايات،غرفة البرتقال،الأضواء)،وصدرت له بالإنكليزية روايتان هما(مخبرالشيخ ،وشارع المصيدة الدبقة)،فضلاً عن كتابة القصة القصيرة، وعشرات المقالات في الصحافة صدرت في بيروت بعنوان(نصوص) عام 1998.
 يشار إلى ان عارف علوان أحد الأسماء المهمة في ساحة الإبداع العراقي في المنفى ، إمتاز بعمق الرؤية ، وجمال اللغة والتعبير، جريئاً في الرأي وحراً في التفكير ونزعته الإنسانية ، إلا أنه لم يحظ بما هو جدير به من إهتمام نقدي ، وعاش حياة صعبة انتهت بموته بالمرض اللعين في آذار من عام 2017.
     إن بضع كلمات أكتبها لم تعد قادرة على الوفاء لتاريخك ومنجزك ياصديقي، فلو كنتَ قادراً على جرح إحساسنا بلسان صمتك الأبدي ، لأسمعتنا مرّ العتاب على أوقاتٍ قضيناها معاً ، كنت قلباً مفعماً بالحب يتسع لكل الناس ، رحلت بصمت بعد أن تقطّع قلبك
 حسرات.