{البوكينيست}.. إرث نهر السين وأحلام القرّاء

بانوراما 2020/12/19
...

ليز ألدرمان
ترجمة: ليندا أدور
في يوم منسم، غلف جيروم كاليه، نسخة مستعملة من كتاب السيرة الذاتية لروبسبيير بورق السيلوفان، بإحكام، وغطى الغلاف المقوى المصنوع من الجلد العنابي، بنقرة من رسغه، تنم عن خبرة ووضعه بالقرب من مجلد ثقيل عن “تاليران” داخل كشكه ذي اللون الأخضر الداكن على أحد أرصفة نهر السين.
كانت السماء تشع بزرقتها والشمس تلقي بوهج ملون على وجوه التماثيل التي تزين “بونت نيف”، ليس بعيدا عن المكان الذي يقف فيه كاليه، لأكثر من 30 عاما، ليبيع كتبه الكلاسيكية التي علاها الغبار لعدد لا يحصى من الزوار. 
 
غرق السفينة
في الأوقات العادية، يتصفح سكان باريس والسياح من مختلف أصقاع العالم، بضاعة كاليه، وتلك التي يبيعها نحو 230 من بائعي الكتب في الهواء الطلق على طول نهر السين، المعروفين هناك باسم “ليه بوكينيست” أي بائعي الكتب بالفرنسية،إذ تمتد أكشاكهم المعدنية التي تشبه الصناديق لمسافة نحو اربعة أميال على الضفتين اليسرى واليمنى للنهر. لكن، وبسبب إجراءات الإغلاق العام التي فرضت بهدف الحد من انتشار جائحة كورونا، التي أبعدت المتصفحين عنهم، باتت حياة وسبل عيش بائعي الكتب معرضة الخطر سريعا، اذ يستعد الكثير منهم لمواجهة، ما يعتقدون أنه قد يكون الفصل الأخير لمهنة عمرها يمتد لقرون، حتى غدت أيقونة من أيقونات باريس على غرار متحف اللوفر وكاتدرائية نوتردام. 
يقول كاليه (60 عاما)، الذي يرأس جمعية بائعي الكتب، وهو ينظر بقلق الى صفوف الأكشاك المقفلة على امتداد رصيف “دي كونتي” فوق قمة “إيل دو لا سيتي”: “نحاول جهدنا منع هذه السفينة من الغرق، لكن فيروس كورونا، تسبب باختفاء الكثير من زبائننا”. 
حتى قبل أن تلجأ فرنسا الى فرض إغلاق عام جديد في عموم البلاد قبل بضعة شهور لمكافحة عودة تفشي الفيروس، كانت حركة قدوم السياح، الذين يشكلون العنصر الأساس من دخل باعة الكتب، قد توقفت الى حد كبير، الى جانب قضاء الوباء على هواية الباريسيين المحببة وهي الخروج للتنزه بلا هدف للإستمتاع بالحياة، التي ضيقت عليها إجراءات حظر التجول والحجر الصحي التي حرمت بائعي الكتب من زبائنهم المتعصبين. 
 
بقرة حلوب
يقول كاليه إن المبيعات قد تراجعت هذا العام بنسبة 80 بالمئة، الأمر الذي أدى الى تعرض الكثير من الباعة الى أزمات خانقة، لا سيما أولئك الذين استغلوا وفضلوا سلاسل مفاتيح برج ايفل وأكواب قهوة الموناليزا، وغيرها من الهدايا والتذكارات، على الكتب، كبقرة حلوب (مشروع مدر للأموال) عندما كان الرصيف يغص بالسياح.
يشير السيد كاليه في حديثه الى أن أياما قد تمر من دون أن يبيعوا كتابا، واذا ما تم ذلك، فسيكونون محظوظين لتمكنهم من كسب مبلغ 30 يورو، فقد شهد الرصيف إغلاق أكثر من أربعة أخماس الأكشاك الممتدة على جانبي النهر، بدءا من كنيسة نوتردام حتى بونت رويال، وبشكل دائم، تقريبا.
“نحن بالكاد نكسب رزقنا اليومي، ما يكفينا لنأكل”، يقول ديفيد نوزيك (67 عاما)، وهو مهندس صوت سابق، ومتخصص ببيع كتب الأدب الكلاسيكي، واللوحات الفنية الحديثة والمطبوعات الحجرية القديمة بالقرب من متحف اللوفر منذ ما يقارب الثلاثة عقود. ويعد نوزيك، من بين القلة من بائعي الأكشاك الذين يحاولون جاهدين ابقاءها مفتوحة، بالرغم من التراجع الكبير لحركة مرور الناس، لكنه وقبل فرض الإغلاق العام الجديد مؤخرا، أغلق نوزيك كشكه وغادر عند الساعة السادسة والنصف، على غير العادة، بعد أن باع كتابا واحدا فقط بمبلغ 10 يورو، علما أنه لم يبع شيئا على الإطلاق خلال الأيام الأربعة التي سبقت ذلك.
يقول نوزيك، بأنه، قبيل تفشي الفيروس، كان يعتمد على ما يجنيه من مبلغ مبيعات يصل لنحو 2500 يورو شهريا، أما اليوم، فبالكاد يكسب 400 يورو فقط في الشهر.
 
“البوكان”
لكن “البوكينيست” يريدون مواصلة العمل، وهم حريصون على الحفاظ على تقليد يعود تأريخه الى القرن السادس عشر، عندما كان الباعة المتجولون بيعون “البوكان” أو الكتب الصغيرة المستعملة على طول جسر بونت نيف من على عربات خشبية وجيوب كبيرة خيطت بمعاطفهم.
على مر العصور، واجهت هذه المهنة الكثير من الصعوبات بضمنها، الحظر المتقطع الذي فرض عليها في ظل حكم مجموعة من ملوك فرنسا، ففي القرن التاسع عشر، وافق نابليون، أخيرا، على إنشاء أكشاك دائمة لبيع الكتب على حواجز السين، فأسهم بانتشار باعة الكتب وجعلهم نقطة لاجتذاب الطلاب والمثقفين والمؤلفين من أمثال أونوريه دي بلزاك. هناك حاليا مكتبة ضخمة في الهواء الطلق، تضم نحو 300 ألف عنوان كتاب تضمها أكشاك ممتدة على 12 رصيفا.
الكثير من باعة الكتب اليوم، هم من المتقاعدين المعتمدين على المعاش التقاعدي، وهم مجموعة غريبة الأطوار من جامعي الأدب والمجلات الغامضة، التي غالبا ما يتم شراؤها من قبل أصحاب المنازل والعقارات، فضلا عن كونهم منحدرين من خلفيات انتقائية كأساتذة فلسفة سابقين ومغني روك سابقين وصيادلة. 
وقد انضم اليهم باعة من أعمار الثلاثينات والأربعينات، ممن اجتذبتهم حرية العمل خارج المكاتب وتحت المطر وأشعة الشمس ليبدعوا في بناء عالم أدبي داخل مساحة 
صغيرة. 
فلسفة الحياة
حتى قبل تفشي الجائحة، كان “البوكينيست” في مواجهة التغييرات الثقافية، التي أثرت في تجارة الكتب، كالحقيقة التي تقول إنه وسط التشتت التكنولوجي، لا يقرأ الناس الكتب الورقية، كما اعتادوا قبلا، وإن فعلوا، فغالبا ما يلجؤون الى مكتبة “أمازون” لشرائها.
يأمل كاليه أن يقوم بدوره لإبقاء الكلمة المطبوعة حية، فهو بطبعه رجل ثرثار، بإمكانه المزاح مع الغرباء لساعات، يحب أن يرى نفسه على أنه “أثر تناظري” لعصر بسيط، في حضرة أناس يمرون متعجلين وأعينهم ملتصقة بهواتفهم المحمولة. هناك جهاز هاتف أرضي بلون “البيج” مثبت أعلى كشك كاليه، تحته يافطة مثبتة مكتوبة بخط اليد تقول: “القراءة تتسبب بأضرار جسيمة للغباء”. تبدو رفوف أكشاكه مرصوصة بمجلدات “إيفان الرهيب” و”فولتير”. يقول كاليه بأنه جمع مع اختياراته الموضوعات الموسيقية والطبيعة، بضمنها كتب عن عازف البيانو الكندي غلين غولد وفلسفة الفينج شوي الصينية وسلسلة جبال البرانس، لأنه على حد تعبيره، لا يمكن للناس أن تعيش على التأريخ فقط. 
ويعلق بصوت مكتوم عبر كمامتين: “أنا أعمل وفق الطريقة القديمة، فزبائني هم أشخاص ألتقيهم على الرصيف، ومكتبتي هي واحة لمقاومة الآلة التي حلت محل كل شيء”، مضيفا “إنها فلسفة حياة، وكيف نريد أن 
نحياها”.