الأزياء.. حيزٌ للحفاظ على التباعد الاجتماعي

بانوراما 2020/12/23
...

  هارييت كويك
  ترجمة: ليندا أدور
سواء كانت لإبراز المكانة الاجتماعية أو نمط الحياة، كانت أزياء الملابس الضخمة موجودة منذ قرون، وكما يشير تاريخ الأزياء والموضة، فقد بدأ فن التباعد الاجتماعي منذ أمد طويل قبيل تفشي كوفيد- 19، إن كان من خلال الكتافات أو «البانييه» (تنورة موسعة نوع من الملابس الداخلية تلبس تحت التنانير في أوروبا في القرنين السابع والثامن عشر- المترجمة) والخمار والقفازات، واللباس العسكري أو موضة البانك بالدبابيس والمسامير المعدنية، اذ لطالما ارتبطت الأزياء بخلق مسافة أو حيز.
يمكن أن يكون المؤشر الواضح على هذا الكلام هو مجموعة أزياء ديور الأولى بعد الحرب العالمية الثانية والتي حملت عنوان «نيولوك» اي المظهر الجديد، بتنانيرها الممتلئة والمستديرة، استعادت من خلالها مكانتها في الجادات الباريسية التي سيطر عليها الألمان. الى جانب الفساتين من قماش التول المتعددة الطبقات والبدلات ببنطال منحوت وأكتاف عريضة والجاكيتات المنفوخة العملاقة التي كانت الأكثر رواجا على منصات عروض الأزياء قبيل الجائحة والتي تبعث برسالة تقول «إبق بعيدا».
 
عجلة العربة
تقول إيما ماكليندون، الأمين المساعد للمتحف بمعهد تكنولوجيا الأزياء بنيويورك، إن التصاميم تخلق المسافة سواء من خلال الإيماءات الكبيرة أو الشكل، فقد تناول معرض المتحف «نمط الطاقة: قوة الموضة» (والذي توقف بسبب الإغلاق التام) جماليات التوكيد والذي شمل فساتين موسّعة من أواخر القرن الثامن عشر وسترة منفوخة كبيرة الحجم من تصميم بالينسياغا من العام 2016، تقول ماكليندون: «في حالة الملابس الحجمية، هناك إدراك للتأثير البصري وإشغال الحيز، وبشكل خاص في ما يتعلق بالحالة»، مضيفة «في حين اننا اليوم نحمي أنفسنا من مسببات المرض، فقد كانت «ملابس التباعد الاجتماعي» التقليدية، كالرداءات والأحذية بطوق المسامير بمقدماتها الطويلة المدببة، هي لتحديد التدرج الهرمي والمكانة الاجتماعية». 
من المفارقة، أن التنانير الضخمة المنتفخة التي سبق وان خلقت التباعد في القرون الماضية، كالتنورة الفرنسية المقببة المعروفة بـ «عجلة العربة» التي انتشرت أوائل القرن السابع عشر، والكرينولين (هيكل قاس مصنوع من شعر الحصان والقطن أو الكتان يلبس تحت التنورة ليعطيها الشكل المنتفخ-المترجمة) خلال أواسط القرن التاسع عشر، قد تم التخلي عنها لأسباب تتعلق بالنظافة الصحية. تقول جوديث وات، المؤرخة والكاتبة ورئيس الدورات بكلية سانت مارتينز المركزية للتصاميم والفنون بلندن: «في الوقت الذي رأى البعض بأن تلك «الثياب» كانت وسيلة للحفاظ على الصحة الاخلاقية للسيدات، فإن حاشية أو طرف التنانير كانت تجر على الأرض لتأوي ليس فقط الأوساخ بل الجراثيم كذلك». خلال القرن التاسع عشر، أدى الخوف المتنامي من الأمراض الى تقصير حافات الثوب وتقليص حجمه، تقول وات: «فقد شهدت منطقة أيست إند بلندن تفشي وباء الكوليرا، تلك العدوى التي يمكنها الانتقال من الملابس الى البشر» مضيفة، «فقامت العديد من الخيّاطات بنقل عملهن الى الأحياء الفقيرة، وقد شاعت روايات عن كيفية إكمال العمل على فساتين الحفلات والعباءات بوضعها على رؤوس الأطفال النائمين،  لتلتقط الفيروسات  ومن ثم انتقلت الى منطقة ويست إند ليصاب بها المزيد من الأشخاص.
 
الملابس الصحيَّة
بدأت حركة «الملابس الصحية» التي نشأت في ثمانينيات القرن التاسع عشر بمحاربة الأزياء التي يمكن أن تنقل الأمراض، «ففي أواخر القرن العشرين، تداخل ابتكار الحواجز المكانية من خلال الملابس مع الأفكار السائدة عن الهوية والفردية. وقد كانت الدبابيس والمسامير التي ارتداها متبعو موضة البانك رادعا للتواصل الاجتماعي، بينما في العقد الأول من القرن الحالي، وضعت الهوديس (رداء ذو قلنسوة) العملاقة والسترات المحشوة عوائق بدنية بين سكان المدن المزدحمة.
في ثمانينيات القرن الماضي، نقلت «بدلات القوة» الجريئة بأكتافها المبطنة  انطباعا عن القوة والرجولة والطموح.
القبعات لم تكن ببعيدة عن ذلك، يقول البريطاني ستيفن جونز، صانع ومصمم القبعات النسائية بأنها لعبت، في الغالب، دورا أثناء الأزمات الصحية، مشيرا الى ارتداء الأطباء للأقنعة الجلدية الكاملة بمقدمات مؤنفة تشبه المنقار وفتحات للعيون، خلال تفشي وباء الطاعون. بحلول العام 1918، واثناء انتشار وباء الانفلونزا الاسبانية، سادت موضة ارتداء القبعات ذات الحافة العريضة مع وشاح لتوفير المزيد من الحماية. «ارتداء قبعة كبيرة تعني جسديا عدم إمكانية تقبيل بعضكم البعض، وعليك اللجوء الى «القبلة الهوائية»، والحديث لجونز. 
وفقا لبحوث وأمثلة يتم جمعها وتقوم بها مؤسسات من بينها متحف فيكتوريا وألبرت، فقد أصبح الرمز الأقوى على التباعد الاجتماعي، اليوم، هو قناع الوجه، الذي يجسد رمزا لخوفنا ورغبتنا في التخفي والاختباء، وتساعد على منع انتشار الفيروس وتذكر الآخرين بمسببات المرض غير المرئية. لكن ماذا عن المستقبل؟ 
تقول كاميل بيدولت وادينغتون، مصممة الازياء الفرنسية: «بارتدائك قناع الوجه والنظارات الشمسية، تظن بأنك متخفٍ مثل زورو»، لكن على الجانب الآخر من الجائحة، قد تكون الأزياء أقل من أن تدلي بتصريح أو تخدم «التوق الى التلامس» من خلال المنسوجات والقصات الحسيَّة. يقول جونز بأنه يتوقع حدوث شيء شبيه لما حدث في أعقاب الحرب، أن تكون هناك شهية للمتعة وحياة الترف بقوله: «لقد عملت مع ديور على مدى 25 عاما، ولم أفهم، بالفعل، ذلك التوق الغريب الى ما نسميه «نيولوك» حتى الآن».
 
  *صحيفة الفاينانشيال تايمز البريطانية