الموصل.. الصمود وبث الحياة وسط الركام

بانوراما 2020/12/28
...

سامية كلاب 
ترجمة: ليندا أدور
نتيجة للعمليات العسكرية اثناء المعارك ضد عصابات داعش تعرضت أجزاء كبيرة من مدينة الموصل الى الدمار، بعد تحريرها من قبل القوات العراقية، وبدعم من قوات التحالف الدولي، منذ ثلاث سنوات، لكن، حتى اليوم، وبغياب الدعم،  يبث  أهلها نبض الحياة، ببطء وصلابة، في شوارعها ومتاجرها من خلال الأضواء والموسيقى والألوان. 
أعادت عنان ياسون، وهي أم لطفلين، بناء منزلها بألواح أسمنتية صفراء اللون وصار بارزا وسط ركام المدينة، ليكون تعبيرا عن الصمود في مدينة لا تزال بالنسبة للكثيرين مرادفة لحكم عصابات داعش 
الإرهابية. 
فمنذ تحرير المدينة وحتى اليوم، كانت ياسون تدخر، وبشق الأنفس، المال الذي يجنيه زوجها من عربة بيع الخضار في المدينة. كان لديهم ما يكفي فقط لإعادة بناء الجدران المهدمة، لكن المال اللازم للأرضية كان هدية مقدمة من والدها قبيل وفاته. أما ترميم السقف، فكان عن طريق قرض لا يزال واجب السداد. "لم أرد سوى بيت فقط"، تقول ياسون، التي لم تعترض على الطلاء "الأصفر الفاقع" الخارجي للمنزل الذي تبرع به أحد الأقارب.
 
هاون ومدقة
تشهد أكوام الركام التي خلفتها المعركة الشرسة لتحرير ثاني أكبر مدن العراق، على حجم العنف الذي تعرضت له، ويتجلى هذا الصمود من خلال مواقع أخرى وسط الموصل، في وقت تعاني فيه الحكومة من ضائقة مالية أثرت سلبا في جهود إعادة الإعمار. هذه الأيام، بدأت الحياة تعود ببطء اليها، فترى التجار مشغولين في محالهم، وموسيقيوها عادوا ليعزفوا ألحانا ساحرة. ومع حلول الليل، تتلألأ المدينة بأضوائها، بينما يخرج سكانها للتجول في الشوارع.
تشير تقديرات الأمم المتحدة الى أن أكثر من ثمانية آلاف منزل تعرض للتدمير أثناء غارات الحلفاء الجوية المكثفة على المدينة بهدف القضاء على داعش، ويضيف أن معركة التسعة أشهر أسفرت عن مقتل نحو تسعة آلاف شخص، على أقل تقدير. 
من جهة اخرى، لا تزال الذكريات عن وحشية العصابات الاجرامية تطارد سكانها، الذين يتذكرون ساحات الموصل عندما كانت مسرحا لقطع رؤوس كل من تجرأ على مخالفة تعليمات العصابة الحاكمة. أما المدينة القديمة الواقعة على الجانب الأيسر لدجلة، التي كانت ذات يوم، "جوهرة الموصل"، فما زال الخراب والدمار مغطيا لأجزاء كبيرة منها، رغم الانتعاش الحذر لبعض الأجزاء الجديدة منها. 
يشير سكان الموصل الى أن معظم أعمال الترميم تمت بأيديهم ومن صنعهم وبجهودهم الذاتية، فيقول أحمد سرحان، الذي يدير مقهى، إصفطت عند مدخله دلال القهوة العتيقة، اذ تعمل أسرته في تجارة البن منذ 120 عاما: "لم أر دولارا واحدا من الحكومة". وكان يتحدث وهو يقف الى جانب هاون ومدقة، استخدمها أجداده لطحن حبوب البن، محتفظا بها في مكتبه كدليل على تأريخ  أسرته العريق.
فوضى
 يقول سرحان، الذي كان يجني من تجارته ما يقرب من 50 ألف دينار في اليوم، أي نحو 40 دولارا، والآن، صار يجني نحو 2500 دولار: "بعد التحرير، كانت هناك فوضى عارمة، لم يكن أحد يملك المال، وكان الاقتصاد صفرا". ثم بدأت حركة العمل تدور لتثمر أرباحا نسبية لمصلحة سرحان وغيره من التجار، قبل أن يبرز تأثير الجائحة مطلع الربيع الماضي، ويضغط على العمال العاديين الذين ما زالوا يكافحون من أجل لقمة العيش، إذ يعمل لدى سرحان 28 عاملا، يحصل كل منهم على 8 دولارات في اليوم، ويصفها بأنها "لا شيء.. فلن يقدروا أبدا على إعادة إعمار منازلهم بواسطتها".
 منذ هزيمة "داعش" أواخر العام 2017، سارت مهمة إعادة إعمار الموصل ببطء شديد، بسبب غياب الحكم المحلي المتماسك على مستوى المحافظة، فضلا عن عدم وجود سلطة مركزية تتولى التنسيق. أدى ذلك الى نشوء شبكة كيانات متشابكة تشرف على إعادة الإعمار مكونة من الحكومة المحلية والاتحادية والمنظمات الدولية ومجموعات الإغاثة، ما أضاف المزيد من الفوضى.
على الرغم من إحراز الحكومة تقدم في ما يخص مشاريع البنى التحتية الكبيرة وإعادة الكثير من الخدمات الأساسية للمدينة، لا يزال هناك الكثير غير مكتمل، بعد أن تم تحويل الأموال المخصصة لإعادة الإعمار من قبل البنك الدولي، لمساعدة الحكومة الاتحادية في مكافحة الجائحة رافقها تراجع الخزين المالي للدولة جراء انخفاض أسعار النفط، التي رافقت انتشار المرض.
 
تأريخ لنحميه
يقول عمار موفق (70 عاما)، الذي أنفق كل مدخراته، لكي يعيد فتح محل الصابون العائد له في المدينة خلال العام الماضي: "مهما كان حجم الأموال المرصودة، فسيتسرب إليها الفساد"، في إشارة منه الى شكوك بوجود شبهات فساد. وعند الدخول الى متجره، تبدو صورة معلقة قديمة لوالده تعود الى سبعينيات القرن الماضي، وتتوسط المتجر أكداس من صابون زيت الزيتون المشهور في المنطقة والمستورد من مدينة حلب السورية، "ما تراه هنا، قمت به بمفردي" يقول 
موفق:
على إحدى الطرق العامة هناك أنقاض لدور سينما كان قد دمرتها عصابات داعش التي حظرت مثل هذه الأنشطة الترفيهية، وفي المدينة القديمة بأزقتها الضيقة التي تعود الى العصور الوسطى، غدت متحفا لأهوال "داعش". 
تبرز من بين الأنقاض قضبان حديدية مشوهة وتتناثر قطع الحجر والمرمر التي أشاد بها المؤرخون لأهميتها المعمارية، كما تبرز علامات، لم تمس، عن الحياة السابقة؛ من قبيل زوج من الأحذية النسائية ودفتر ملاحظات عليه قلوب وقذائف من ذخائر متفجرة. على الجانب الآخر من المدينة،  يحتفظ سرحان بمجموعة من السيوف والأطباق والأواني القديمة، ويقول ممسكا بصفيحة برونزية صدئة، صنعت ونقشت في العام 1202: "هذا هو تأريخنا، إن لم أحمه، فمن سيحميه؟".