المهاجرون العراقيون يحاربون الغربة بصناعة النجاح

ريبورتاج 2020/12/29
...

   سرور العلي  
معظم قصص المغتربين ناجحة، إذ قاموا بتأسيس حياتهم الخاصة، وحققوا أحلامهم سواء في الدراسة أو العمل ومنهم، المهندس والسياسي النمساوي من أصول عراقية عمر الراوي الذي هاجر منذ أكثر من أربعين عاماً، وأبرز التحديات التي واجهها هي كيفية إتقان اللغة الجديدة وتعلم ثقافة البلد الجديد، ومعرفة نمط حياتهم والنجاح في الدراسة، وفقدان الأهل والأصدقاء والبدء من نقطة الصفر، اذ قام بتأسيس مبادرة المسلمين والمسلمات النمساويين.
 وعن ذلك اوضح الراوي "سبب قيام تلك المبادرة هو الكراهية للإسلام والمسلمين في النمسا آنذاك، وكان علينا اثبات أننا جزء لا يتجزأ من المجتمع ودورنا البارز، فبدأنا التفاعل مع مؤسسات المجتمع المدني ونشر المقالات، وحضور الندوات والمشاركة في الإعلام، والتأكيد على الدور الحضاري للمسلمين ومناهضة كل أنواع العنصرية والتحريض ضد الآخرين، وأصررنا على أن نطلق أيضا كلمة النمساويات حتى لا نغفل عن دور المرأة ومساواتها مع الرجل، ودورها الفعال كي نتجاوز إقصاءها وتهميشها وغبنها كما هو شائع في الكثير من المجتمعات، فأكدنا أن ليس هناك مانع من أن تكون نمساوياً ومسلماً في الوقت نفسه".
مبيناً "كما كنت من مؤسسي منبر الحوار المسيحي المسلم وعضواً في مجلس ادارته، وتم تأسيسه بعد تفاقم الأزمة بسبب نشر الرسوم المسيئة في الدنمارك، وتصاعد موجة التظاهرات وسوء الفهم بين الحضارتين، والهدف منه هو بناء الجسور وخلق صيغة للحياة المشتركة، وكيفية إيجاد الأمور التي تجمعنا، وكيف نكون ضد الكراهية والحقد المتفشي في الكثير من بلدان العالم".
أما عن مصطلح الاغتراب الشائع، فلفت الراوي "لا أحب أن نبقى في مصطلح الاغتراب فنحن أصبحنا في الواقع مواطنين في هذه البلاد، ونحن الآن أوروبيون نمساويون، ولكن من أصول أو جذور عربية أو تركية أو ما شابه، وذلك لا يعني أننا ننسى الأصل الذي انحدرنا منه لكن علينا كجالية أو أقلية أو جزء من نسيج هذا المجتمع أن نتخلص من تلك الكلمة، ولا أعتقد أن من عاش كل هذه السنين يكون مغترباً، ومنهم أنا الذي ابلغ من العمر الآن 59 سنة، قضيت منها 17 سنة فقط في العراق، لذا لا أدري أين سيكون الاغتراب".
 
معاناة الفراق 
كبيرة هي المعاناة التي يعيشها الأهالي من جراء فراق أحبائهم وتشتتهم في بقاع العالم، وعلى الرغم من وجود وسائل التواصل الاجتماعي والتكنولوجيا الحديثة التي قربت المسافات، حتى تحول الكون لقرية صغيرة، يبقى هؤلاء بحسرة مستمرة لرؤية أبنائهم والرغبة بعودتهم إلى أحضانهم، إذ تقول الحاجة أم حسام:"منذ هجرة ابني إلى تركيا وأنا أعيش في دوامة من القلق والاشتياق له، أتمنى أن أراه بقربي في كل لحظة".
وأشارت نغم حامد (40) عاماً إلى"أن منصات الدردشة خففت كثيرا من ألم الفراق، فيمكننا التواصل بالصوت والصورة، وجربت هذا الشعور حين سافرت لمدة عامين مع زوجي وابنتي إلى السويد".
وتعيش هبة حسين (33) عاما، تجربة مريرة وهي تقيم في لندن مع زوجها وطفلها بعد هجرتهم منذ خمسة أعوام، وتتحدث بصوت مؤلم:"كانت مصلحتنا في السفر رغم أنني أعاني من ابتعاد أسرتي عني، ولكني أحاول تحمل الوحدة بالاتصال بهم وسماع اصواتهم".
وبين الباحث الاجتماعي عادل موفق:"أن بنية مجتمعنا تتميز بالتماسك والتقرب الدائم، لذا تصدم بطموحات بعض أفرادها ممن يودون الهجرة للعمل أو الدراسة أو البحث عن الاستقرار والعيش برفاهية، وهناك أسر تتقبل سفر أولادها لتحقيق أحلامهم، وذلك عائد إلى تركيبتهم ومستواهم الثقافي والاقتصادي المرتفع، في حين الأسر المنغلقة وذات الأسس الراسخة بالعادات والتقاليد ترفض هجرتهم".
مؤكداً "تطور وسائل التواصل اسهم بشكل كبير في تقليل الشعور بالغربة بين الأحباء، فكانت الوسائل التقليدية سابقا لا تفي بالغرض من خلال الرسائل الورقية التي تأخذ وقتا طويلا لتصل إلى أصحابها".
وفضل كاظم حسن (67عاماً)، سفر ولديه واستقرارهما في دبي، طالما لم يقدم لهما البلد شيئا بعد تخرجهما قبل ثلاث سنوات، ولم يحصلا على وظيفة تناسب مؤهلاتهما العلمية، فقررا الهجرة والعمل في شركة هناك وشجعهما والدهما على ذلك، بدلا من البقاء في صفوف العاطلين مضيفاً"ما يعزيني هو طموحهما ومستقبلهما الذي سيضيع لو بقيا في البلد".
أما الحاجة أم محمد فإن أكثر ما يزعجها هو التفكير المستمر في صحة ابنها، وهو في الغربة والطعام الجاهز الذي يتناوله وتأثيره في صحته.
حين انتقلت فاطمة مؤيد (35) عاماً، للعيش بألمانيا مع زوجها وأطفالها، وجدت صعوبة بالتأقلم في العام الأول من انتقالهم، وتقول عن ذلك:"أصعب العقبات هي محاولة التكيف وتذكر فراقي لأقرب الناس لي، والتحدي الآخر هو تربية أطفالي في الغربة وفي بيئة جديدة".
 
نجاحات في الغربة  
الشابة سارة السعيدي الحاصلة على شهادة البكالوريوس في هندسة الكهرباء والحاسبات من جامعة دهوك، وشهادة الهندسة في تخصص الميكانيك من جامعة نورثامبتون في انكلترا.
أوضحت:"أدرس الآن في جامعة لستر الإنكليزية كطالبة ماجستير في إدارة المشاريع الهندسية، واناعضوة في منظمة نساء في الهندسة البريطانية وأحد خريجي برنامج آيلب، للقيادات الشابة والتبادل الثقافي، تم اختياري من بين آلاف الشباب لخوض تجربة بناء السلام والتطوير المجتمعي في أميركا، وفي سنة 2019 تم اختياري لأمثل العراق في اليابان ضمن برنامج تمكين الشباب العراقي في مجال إدارة الأعمال".
مضيفة "في هذا العام تم اختياري من قبل جامعة دوك الأميركية ومعهد الشؤون العالمية للحديث عن دور الشباب العراقي في بناء السلام، هدفي هو إيصال صورة جميلة عن العراقيين للعالم، عن ثقافة الشباب العراقي والجيل الجديد، وسعيهم المستمر للتغيير رغم الظروف التي يمر بها البلد".
وأشارت إلى أن من أهم سبل تطوير الذات هو استغلال الوقت بطريقة صحيحة، واعتماد الإمكانيات المتاحة، كما أن الظروف القاسية لا تمنع المبدع أو المبتكر من أن يحقق هدفه. 
 
استثمار الطاقات
أما عبد الرحمن الشلال الذي تخرج في كلية علوم الحاسبات فتحدث عن تجربته قائلا:" بعد تخرجي شعرت بإحباط لأنني واجهت صعوبة في الحصول على وظيفة، كنت آمل بالحصول على عمل يكون في بغداد وقريباً من أسرتي ولكن من دون جدوى، بدأت كعامل في مخبز مع تفكيري المستمر في مستقبلي الذي سيضيع لو بقيت داخل العراق، لذا قررت الهجرة بعد الحصول على وظيفة في شركة نمساوية ضمن المجال الذي درسته".
وأكد"الآن أنا في النمسا، أعمل مبرمجاً في شركة "الانترناشونال"، وهي شركة تملك ثمانين فرعاً في العالم لصنع أجهزة المقاييس، شعرت بقيمة الدراسة وقت مغادرتي للعراق، ورحلت لبلد يستثمر الطاقة الشبابية، ولدينا في العراق الكثير من العباقرة والعقول النابغة، لكن لم يجدوا من يحتوي إبداعهم". 
وبين"تطوعت في الصليب الأحمر وأنا الآن مساعد طبيب في المدينة التي اسكنها في "شتاير مارك" في النمسا، واسهمت في أيام الاجازة بمساعدة المصابين بوباء كورونا ونقلهم إلى المستشفيات".
 
تعايش 
ويحاول المهاجر حسن القصير الذي يقيم في النمسا توطيد التعايش بين جميع الأديان، وتغيير الأفكار الخاطئة عن المسلمين مؤكدا:"سنة 2016 درست اللغة بشكل جيد في جامعة فيينا، حتى أصبحت أتحدث باللغة الألمانية، ثم تطوعت في عدة منظمات تعمل بصورة محورية من خلال الترجمة أو المساعدة في الأوراق الخاصة 
بالإقامة، فكانوا يتحدثون معي باللغة العربية وأنا أترجمها للألمانية، لاسيما اللاجئون العراقيون والسوريون والفلسطينيون، كما تطوعت في السنوات اللاحقة في منظمة تطوعية للتبرع للآخرين بالمساعدات كالأثاث والسلع والثياب وأدوات طعام وأشياء منزلية بصورة عامة، وعندما اجتاح وباء كورونا العالم عرضت على عدد من كبار السن تقديم المساعدة بالتسوق لهم، كونهم أكثر عرضة للإصابة بالفيروس".  
 
آثار نفسية 
أما عن الآثار النفسية التي تتركها الغربة على الأفراد فتوضح المختصة النفسية خلود علوان :"للغربة آثارها السلبية والإيجابية، فالانتقال للعيش في بلد آخر ينمي شخصية الفرد وفكره، ويساعده على الاكتشاف والإحساس بالمسؤولية، والزيادة في الجانب الوظيفي وتحقيق السعادة النفسية، فالاستقرار خارج الوطن هو وضع جديد وتحدٍ لأدمغتنا بسبب تغيير الحياة الروتينية التي تجعل أدمغتنا راكدة، وبذلك سيعمل الدماغ عند الهجرة على اكتشاف طرق وشوارع ومناطق، والتعود على عادات مختلفة وقواعد جديدة، وهي ترهقنا في البداية ولكنها تعمل على تحسين الوعي والإدراك، كما يزداد الإبداع والمعارف بلقاء أفراد جدد ذوي خبرات ومهارات عديدة، ووضع خطط تسهم في استقرارنا والتفاعل مع ثقافات كثيرة، وتوطيد علاقات مختلفة من شأنها أن تساعدنا على مواصلة العيش في الخارج".
أما عن الآثار السلبية، فأكدت علوان أن الاغتراب يسهم في ضياع الهوية، وتدمير الشعور بالانتماء للوطن، كما تشكل الهجرة صدمة ثقافية عكسية.