بثَّ الحياة في الشخصيَّة القصصيَّة ما بين {شين كونوري} و {جيمس بوند}

بانوراما 2021/01/04
...

ريس شابيرو
 ترجمة: مي اسماعيل 
مؤخرا، توفي الممثل الاسكتلندي "شين كونوري" عن تسعين عاما، والذي كان بالنسبة للكثيرين "الوحيد" الذي قدم شخصية "جيمس بوند" وأضفى سحره على أدوار عديدة؛ من أهمها دوره في فيلم"المحصنون- The Untouchables" ونال عنه جائزة اوسكار أفضل ممثل مساعد. 
كان لكونوري، على امتداد أكثر من خمسة عقود، حضور جاذب على الشاشة امتزجت فيه لهجته الاسكتلندية بوسامة الطلعة، وثقة راقت للمشاهد بغض النظر عن نوع الادوار التي أداها. تقول الناقدة السينمائية "بولين كايل": "يبدو كونوري إنسانا عالي الثقة بنفسه؛ ترغب النساء بلقائه والرجال بأن يكونوا مثله.. وهو ما لم أرَهُ منذ ظهور الممثل الراحل "غاري غرانت" على الشاشة". قدّم كونوري أكثر من ستين فيلما، كان له الدور الرئيس في أغلبها، وباستثناء سلسلة "جيمس بوند" لم تنل إلّا القلة منها ثناء النقاد؛ منها- "المحصَّنون"، و"الرجل الذي سيكون ملكا"، و"التل"، و"الاساءة"، و"البيت الروسي". والعديد منها كان سطحيا؛ مثل- "زاردوز"، و"تحالف الخارقين"؛ بينما جاء بعضها لامتاع الجمهور فحسب؛ مثل- "تقصي اكتوبر الاحمر" و"انديانا جونز والحملة الأخيرة". 
 
الجاسوس اللبق
تميز كونوري بملامح جذابة وبنية رياضية، اختلطت ببعض الخشونة الآتية من نشأته في الطبقة العمالية بأدنبرة. عمل في صقل التوابيت وعرض ملابس السباحة قبل أن يرتقي سريعا الى قمة النجوميَّة في أشهر سلسلة أفلام عن الجاسوسية. ابتكر الكاتب "أيان فليمنغ" شخصية جيمس بوند كجاسوس بريطاني لبق، منغمس في المغامرات النسائية ومتفوق باستخدام الأسلحة، مزدوج التعاملات وبطباع مترفة؛ لكنه رجل عنيف مع أعدائه يرتدي بذلات فاخرة. بدأت السلسلة بفيلم "د.نو" عام 1962، واستمرت لستة أفلام أخرى خلال عقدين من الزمن؛ كان لكونوري فيها القدرة على تجسيد صلابة وثقة بالنفس أسرت رواد السينما. وعن ذلك يقول: "كل ما فعلتُه اضافة حس الكوميديا المفقودة من روايات فليمنغ ونوعا من الانسيابية". يقتل بوند العدو من دون عاطفة، ويظهر ذكاءً هادئًا عند السجال مع الأشرار المصممين على تدمير العالم. سأله أحد الاشرار يوما: "هل تخسر مواجهاتك بالمرونة نفسها التي تربح بها؟"، فأجابه: "لا أعرف؛ فأنا لم أخسر قط".. أعاد كونوري (معترفا بالجانب الوحشي في شخصيته) الحيوية إلى هذا الدور.. يقول الناقد ومؤرخ السينما "ديفيد تومسون": "كان مفترضا أن يكون بوند شخصية راقية؛ لكن كونوري لم يكن كذلك.. لقد جاء من الطبقة العاملة، وهذا أعطاه جانبا خشنا.. كان بوند انكليزيا وكونوري اسكتلنديا؛ ولطالما ازدرى الاسكتلنديون الانكليز؛ وهذا جلب طاقة مهمة للغاية لنهجه الادائي".
هذا الجانب الخشن (الذي لم يكد يخفى على المشاهد) أعطى لأداء كونوري عمقا آسرا؛ خاصة دوره الذي نال عنه جائزة الاوسكار: شخصية شرطي الشارع الايرلندي الخشن "جيم مالون" في فيلم المخرج براين دي بالما "المحصّنون- 1987"، أمام كيفن كوستنر الذي أدى شخصية المحقق "أليوت نيس" وروبرت دي نيرو بشخصية زعيم العصابات "آل كابون". قال كونوري إن الدور جذبه، لأنه"متناقض": "يعجبني أن يظهر الممثل بصورة معينة لكنه يقدم نمط تصرف مختلفا.. ربما شيئا معاكسا تماما. في البدء حاولت تقديم شخصية مالون بأنه شخص مزعج، حتى لا يعتقد المشاهد أنه سيهتم لمشاعر نيس أو لأسرته؛ ثم سيظهر أنه شخصية مختلفة في دواخله.. قادر على الاعتناء بعلاقة حقيقية". وجذب انتباه نقاد السينما بمجلة "تايم" قائلين إنه.. "أحد أكثر النجوم الذين تم التقليل من شأنهم على الشاشة؛ ممثل يتمتع بقوة تحكم شديدة وإنجاز تقني عالي..". 
سمحت شهرة كونوري له بتقاضي أجور عالية، وكان مليونيرا طالما تبرّع بمكاسبه الى "الصندوق الاسكتلندي للتعليم الدولي"؛ وهي منظمة ساعدها لإطلاق هبات تمنح للفنانين الشباب. قال "تيرينس يونغ" مخرج فيلم "د. نو" يوما: "لم أَرَ سوى نجمين عظيمين لم يُغيرهما النجاح الكبير: شين كونوري والكلبة لاسي؛ وكلاهما اسكتلندي". 
 
نشأة عماليَّة
ولد "توماس شين كونوري" يوم 25 آب سنة 1930 في ادنبرة، حيث عمل والده سائق شاحنة ووالدته خادمة، ونشأ في منطقة صناعية تنتشر فيها روائح تخمير الكحول ومعامل المطاط. ترك المدرسة في الثانية عشرة وانضم للبحرية البريطانية بعد أربع سنوات؛ وقال إنه تسرَّح قبل إكمال مدة الخدمة لإصابته بقرحة المعدة. ولكونه محاربا قديما حصل على فرصة الالتحاق ببرنامج مهني وتدرّب ليكون صباغا للأثاث، ومساعدا لمتعهد دفن موتى يسمِّر التوابيت في قاعة الجنائز. خلال اوقات الفراغ تدرّب على رفع الأثقال وصار موديلا لمدرسة رسم. أقنعه صديق بالانضمام لمسابقة بناء الأجسام بلندن، ففاز بالجائزة البرونزيّة. وتقدم لمقابلة اختيار ممثلين لشركة فنية متجولة، وفاز لتأديته حركاتٍ بهلوانية.. "لم يستطع آخرون تأديتها". بدأ تعليما ذاتيا لتحسين قدرته للتمثيل (بناء على نصيحة صديق)؛ فقرأ مسرحيات شكسبير ودرس تقنيات كبار المخرجين، وسعى لترويض لكنته الاسكتلندية؛ التي قيل إنها كانت ثقيلة بحيث أعتقد الممثلون أنه يتحدث البولندية! اشترى جهاز تسجيل واستمر بالتدريب على النطق؛ لكن بقايا تلك اللكنة صارت علامته الفارقة. ودفعته وسامته قدما حتى انتقل من الأدوار الثانوية الى الرئيسة؛ فوقف أمام "لانا تيرنر" في ميلودراما الحرب العالمية الثانية "وقتٌ آخر، مكان آخر.." سنة 1958. 
 
"أبدا لا تقل أبدا"
اشترى المنتجون حقوق انتاج كتب المؤلف "أيان فليمنغ"، وبدؤوا بالبحث عن ممثل لبطولة فيلمهم واطئ الكلفة: "د. نو". كان قبول كونوري لدور بوند خيارا محفوفا بالمخاطر؛ لكن لم يكن للمنتجين بدائل؛ ففيلم المليون دولار استدعى الاستعانة بممثل واعد لكنه قليل الأجر. وهكذا حصل كونوري على الدور لقاء 16500 دولار. قال المنتج "ألبرت بروكولي" لمجلة نيويورك تايمز سنة 1964: "جذبتنا ثقته العالية بالنفس؛ فلم أَرَ مثله سابقا.. وكلما فاز في نقطة جدال ضرب المائدة بقبضته، أو ضرب على رجله، ولم يكن ذلك تمثيلا، وحينما انصرف راقبناه يمشي في الشارع مبتعدا بمنتهى التكبُّر، فقلتُ: هذا من نريد..". 
عاد كونوري لتمثيل "بوند" في أفلام: "From Russia With Love- من روسيا مع حبي، 1963"، "Goldfinger–الاصبع الذهبي، 1964"، "Thunderball- ثاندربول، 1965"، "You Only Live Twice- المرء يعيش مرتين فقط، 1967"، و"Diamonds Are Forever - الماس يدوم للأبد،1971". اجتاحت العالم حمى "بوند" في الستينيات؛ فظهرت أغاني تمجِّده وابتكرت عطور باسمه. يقول كونوري إنه تعب من الضجة: "كانت المرة الثانية والثالثة ممتعة، والقفز من الطائرات مسلٍّ؛ رغم أنه يربك تصفيفة شعري". أقسم بعد فيلم "الماس" أن لا يعود للشاشة بشخصية بوند، فحلّ محله آخرون؛ لكنه قدم الدور مرة أخيرة سنة 1983 بإعادة انتاج "ثاندربول" تحت عنوان: "أبدا لا تقل أبدا-Never Say Never Again"؛ كإشارة لكسر وعد كونوري. تخاصم كونوري مع المنتجين بشأن الأجور؛ لكنه استغل أيضا سمعته كنجم شباك للمساعدة بانتاج مشاريع متعثرة ماليا لأصدقائه. منحته الملكة اليزابيث الثانية رتبة فارس سنة 2000؛ بعد تأخير لمدة سنتين زعمت الشائعات أنه بسبب دعمه لموقف الاستقلال الاسكتلندي. 
بقي كونوري بالنسبة لمعجبيه الممثل الوحيد الذي يستحق ارتداء بذلة بوند الفاخرة؛ لكنه دأب (بتطور مسيرته المهنية) على الدفاع بقوة عن استقلاليته من ذلك الدور الذي اطلقه الى النجومية. قال سنة 1964 لصحيفة "تايمز": "لا أنكر أبدا أن بوند صنع (مجدي)؛ لكن ذلك لن يجعلني عبدا لبوند، وبامكاني قطع القيود أي وقتٍ أشاء. وتلك القيود لم تعد مصنوعة من سلاسل الحديد بعد الآن؛ بل من الحرير
 الناعم".