نصير فليح
التطبيقات المعاصرة التي توظف التفكيكيّة في المجالات البحثيّة المختلفة تؤكد الخصوبة والأهمية الكبيرة لها. فتأثيراتها وتوظيفاتها الفاعلة مستمرة في زمننا الحالي في مجالات متعددة، حتى بعد موت رائدها ومؤسسها جاك دريدا باكثر من اربعة عشر عاما، ورغم التعارضات الحادة في ما يخص النظرة الى التفكيكيّة نفسها.
ومن المجالات البحثية المعاصرة التي يمكن فيها ملاحظة خصوبة تطبيقات التفكيكية هو مجال النظرية النسوية (الفمنستية feminism). وتتوجب الاشارة هنا أولاً الى ان موضوع الفمنستية اكبر واكثر تعقيدا بكثير مما يتم تداوله في اوساطنا الثقافية باعتباره مجرد السعي للمساواة بين الرجل والمرأة، رغم ان هذا جانب رئيسي فيه. والحقيقة ان الفمنستية المعاصرة في وقتنا الحالي تندرج ضمن ما يعرف "بالموجة الثالثة"، بعد ان امتدت الموجة الاولى من نهايات القرن الثامن عشر الى بدايات القرن العشرين، والثانية من ستينيات القرن الماضي الى ثمانيناته. وهذه "الموجة الثالثة" تتميز عن سابقاتها بتضمنها لمواضيع التمييز العنصري والطبقي والجندر ضمن نطاقها. ومن المتعارف ان انطلاق هذه "الموجة الثالثة" او شرارتها كانت مع القضية الشهيرة التي رفعتها أنيتا هِلْ Anita Hill بتعرضها للتحرّش الجنسي عام 1991 من جانب المرشح للمحكمة العليا في الولايات المتحدة آنذاك كلارنس توماس ورفض شهادتها وتحول الموضوع الى قضية رأي عام. كما نشير ايضا هنا وبايجاز الى ان معجم كامْبرِجْ الفلسفي (2015) يعرف الفمنستية بأنها "مناقشة الانهمامات الفلسفية التي ترفض مماهاة الخبرة البشرية مع الخبرة الذكورية"، وبالتالي فهو موضوع واسع ومتشعّب كما هو واضح.
البحث الفمنستي
وبالعودة الى تطبيقات التفكيك في الفمنستية المعاصرة يمكن ان نلاحظ أن هذا التوظيف ليس بمستغرب، فما دامت الفمنستية واحدة من المجالات الرئيسية للنظرية النقدية المعاصرة التي تسعى الى مساءلة ومراجعة جذور الفكر لاسيما الغربي منه، فلا غرابة ان تكون التفكيكية حاضرة بقوة أيضا. ونظرة سريعة للأسماء الأبرز في مجال الدراسات النسوية في عالمنا المعاصر من قبيل لُوس إريغارَي Luce Irigaray وإيلين سِكْسو HélèneCixous، وجوديث بَتْلر Judith Butler، تبيّن أن أسماء كهذه رغم التباينات الكبيرة في ما بينها وفي طريقة تناولها للبحث الفمنستي، وجدت في التفكيكية فضاء مشتركا ملائما للانطلاق اوالتوظيف. لا سيما ان النظرية الفمنستية قد تمد جذورها عميقا الى مناطق تتعلق بالوجود والكينونة نفسها (الاونطولوجيا).
القارئ العراقي والعربي المطلع على التفكيكية يعرف بعض عناصرها الرئيسية مثل عدم وجود مدلول نهائي للدال، وان المعنى لا يستقر على ارضية نهائية، ومن ثمّ هناك إرجاء مستمر للمعنى، ومناهضتها "للمركزية الصوتية" و"مركزية اللوغوس" و"فلسفة الحضور" وما الى ذلك (ويجدر الذكر هنا ايضا أننا نرى ان "التقويضية" هي الترجمة الأدق لمصطلح deconstruction، وهو ما ناقشناه بتفصيل في كتابنا "ميراث الغائب" (دار نينوى 2018) ولكننا نستعمل "التفكيكية" هنا لشيوعها وتواترها الذي جعل منها ترجمة متعارفة شائعة).
لوس إريغارَي من المنظرات اللواتي يرين ان الاختلاف بين الجنسين اختلاف موجود واساسي، اي ان فكرتها لا تدعو ببساطة الى تطبيق امتيازات الرجل والمجتمع الذكوري على المرأة، وانما على تأكيد الاختلاف الجذري بينهما ولكن احترامه والتعامل معه على هذا الاساس. فإريغارَي ترى ان العالم الداخلي للمرأة فكريا ونفسيا، اي هويتها الداخلية، بطبيعتها تعددية، على خلاف الهوية الداخلية للرجل التي تكون اكثر تمركزا ونزوعا للهيمنة على بيئتها المحيطة. وهوية المرأة هذه دائما ما تم ويتم تصورها على اساس معايير ذكورية، مما يجعلها - اي هوية المرأة - بالتالي في وضع ادنى. فالثقافة الغربية - والعالمية أيضا - بالنسبة لإريغارَي ذكورية التمركز في مواقفها واتجاهاتها وتنظيمها ايضا. وهذه الهوية للمرأة، في فكر إريغارَي، مثل المعنى لدى جاك دريدا، لا يمكن تسميرها في نقطة محددة، فهوية الانثى-المرأة في حركة وتغيّر، بحكم طبيعتها التعددية نفسها، ومن هنا كان ثمة ارضية خصبة لتطبيقات التفكيك في فكرها.
اما إيلين سِكْسو فانها ايضا تشدد على جذرية الاختلاف بين الرجل والمرأة - المقموع في السياق الحضاري والتاريخي - ولكنها تركز على موضوع الكتابة النسوية وتطويرها لدحر الثقافة البطريكية. فهي ترى ان ثمة حاجة الى شكل حصري من الكتابة النسوية ينفصل عن تقاليد الكتابة التقليدية بتوجهاتها وانساقها ذات الهيمنة الذكورية. ومن هنا يمكن ايضا رؤية الوشائج القوية بين فكر سكسو والتفكيكية. فالتفكيكية هي التيار الرئيسي في فلسفات الاختلاف ما بعد البنيوية، وتعمل على تسليط الضوء بكثافة على أهمية "الهامش" و"فضلة النسق" و"الكتابة" والاختلافات المقموعة، بعيدا عن التمركزات الفكرية، وتفتح الباب امام وعي التنوع والمغايرة.
اختلافات بيولوجية أم ممارسات اجتماعية
وكل من إلين سكسو ولوس إريغارَي في خلاف شديد مع المقاربة الفمنستية لجوديث بتلر، التي لا تقرّ بأن الاختلافات بين الجنسين تتمأسس على الاختلافات البايولوجية والفسيولوجية وترفض وجود هوية متمايزة للمرأة تختلف بطبيعتها عن الهوية الذكورية. فمعنى "الجندر" نفسه بالنسبة لبتلر هو في حركة مستمرة ودائبة وتمايزات لا يمكن ردها او اختزالها الى اختلافات مسبقة اصلية، وانما يتشكل من خلال الممارسة الاجتماعية في افعال الاداء الاجتماعي، اي ما تسميه بتلر الأدائية performativity. مع ذلك، فان اختلافات كهذه بين المفكرات الثلاث لا تمنع من اهمية التفكيكية لدى بَتْلر ايضا، التي ترى ان الجندر مُركّب مؤسس على الاختلاف. بمعنى انه بلا ماهية محددة في لحظة معينة من الزمان، وهذا معنى وثيق الصلة - كما هو واضح - بمفهوم دريدا عن الاختلاف المرجأ différance، إذ لا يوجد موضع او مرسى يستقرُّ عليه المدلول بوصفه أرضية نهائية.
رغم التباينات والجدل والجدالات الفكرية العديدة المناهضة للتفكيكية او المناصرة لها، او المناهضة للفمنستية والمناصرة لها، ورغم التبايات الكبيرة ايضا في النظرية النقدية المعاصرة - التي تمثل الفمنستية احد تياراتها الرئيسية - فان التفكيك بوصفه اداة فاعلة في المراجعة والنقد يسجل حضوره بقوة. وهو ما يراه مناصروه دليلا على فاعليته المنهجية، التي تتخطى اتهامات مناهضيه بنزوعه الى العدمية والريبية (الشكّية sceptic)، واختزاله الى ما يفضي الى تمييع المعنى - أي معنى - او حتى تبديده في النهاية.