الرجل الذي سقط من الفضاء

بانوراما 2021/01/10
...

شون براسويل
ترجمة: شيماء ميران
في نيسان من العام 1967، توفي رائد الفضاء السوفييتي (فلاديمير كوماروف) بعد تحطم (سويوز1) عند هبوطها. وتسببت هذه الكارثة بانتكاسات في البرنامج الفضائي السوفييتي، ما أتاح لأميركا التقدم في السباق نحو القمر. كان الحادث أشبه برفع مشهد طبيعي من لوحة الرسام (بروغل) المعروفة باسم سقوط إيكاروس. فبينما كان المزارعون في قرية (كارابوتاك) الصغيرة الواقعة على سفوح تلال جبال الأورال جنوب روسيا يعملون في حقولهم مع شروق يوم الـ 24 من نيسان عام 1967، شاهدوا منظرا سماويا ملفتا في سماء الربيع الصافية لجسم أسود يسقط بسرعة شديدة وأصطدم بالأرض قرب الأفق رافقه صوت انفجار هائل سُمع دويه لأميال.
توفي فيها رائد الفضاء والبطل القومي (فلاديمير كوماروف) ذو الأربعين عاما لحظة اصطدام مركبته (سويوز1) بالأرض. ولا تزال ظروف الحادث يكتنفها بعض الغموض إلى حد ما، لكن دلالة الكارثة كانت واضحة، فالحفرة الناتجة عن الانفجار في الريف الروسي كانت صغيرة للغاية مقارنة بالتأثير الذي خلفه موت كوماروف، لأنها أول حالة وفاة أثناء الطيران في تاريخ رحلات الفضاء البشرية. وكان توقيت وقوع الحادث حرجا بالنسبة لبرنامج الاتحاد السوفييتي وطموحاته أثناء التسابق نحو الفضاء مع أميركا.
وقعت كارثة (سويوز1) بعد ثلاثة شهور فقط من حادثة (أبولو1) التي قتل فيها ثلاثة رواد فضاء أميركان أثناء بدء الاطلاق التجريبي، لكن السوفييتيين تابعوا جدول طيران طموح في محاولة منهم لمواكبة نظرائهم الأميركان، وصمموا مركبات فضائية وصواريخ لرحلات الطيران والهبوط على القمر والدوران حول الأرض، وتأملوا أن يكون العام 1967 عاما مميزا بالنسبة لرحلات الفضاء السوفييتية لمرور الذكرى العاشرة لانتصار سبوتنيك والذكرى الخمسين للثورة البلشفية فيه، وما أثار قلقهم المتزايد هو خسارة السباق إلى القمر لصالح وكالة NASA وعلى أمل الاستفادة من نكسة (أبولو1) ضغط كبار الحزب ومنهم الرئيس ليونيد بريجنيف آنذاك بشدة من أجل تحقيق التقدم. وقال فرانسيس فرينش، مؤلف (In the Shadow of the Moon): « لقد واجه المصممون السوفييت ضغطا سياسيا هائلا من أجل فضاء جديد مذهل، وتم الاستعجال بإدخال سويوز للخدمة قبل أن يتم حل جميع المشكلات”.
 
فشل المهمة
كان المخطط إطلاق أول رحلة بشرية لسويوز في نيسان عام 1967، حين تلتقي سويوز1 مع سويوز2 في المدار قبل العودة إلى الأرض. وأول من قاد سويوز1 ودخل المدار هو (فلاديمير كوماروف) الذي كُرّم بلقب بطل الاتحاد السوفييتي بعد قيامه بأول رحلة فضائية في تشرين الثاني عام 1964، وربما يكون هو رائد الفضاء الأكثر احتراما بعد (يوري غاغرين). ورغم وجود عطلات تقنية سبقت مرحلة الاطلاق بتسعة ايام، وظهور أكثر من 200 عيب في عدة مكونات تقنية من بينها التحكم في التوجيه وأنظمة الإتصالات، ما أثار قلق كبار المهندسين السوفييت، لكن لم يطلب أحد من الكرملين تأجيل
 الاطلاق.
وبعد أن ودع زوجته، أنطلق فالنتينا وكوماروف وسويوز1 إلى السماء المظلمة فوق روسيا في الساعة الثالثة صباحا بتوقيت موسكو في الـ 23 من نيسان عام 1967. وكان المخطط أن تقوم سويوز2 بالرحلة ذاتها في اليوم التالي، وسُمِع كوماروف أثناء إنطلاق المركبة فوق آسيا الوسطى وهو يقول: “وسار كل شي
 جيدا”. 
ثم بدا واضحا أن لا شيء على ما يرام، فاللوحة اليسرى فشلت في الانتشار، وقام كوماروف بكل ما وسعه حتى أنه ركل جدار المركبة الفضائية لغرض فصلها، فمن دون عمل تلك اللوحة ستقل قوة المركبة الكهربائية وتهبط إلى النصف، ما سيؤدي الى فشل المهمة. وبينما أكمل كوماروف دورانه حول الأرض، كان حرص المهندسين السوفييت موجها على إعادته إلى الوطن.
حتى مع تعطل النظام الكهربائي، كان (كوماروف) الهادئ والمحنك قادرا على توجيه مركبته الفضائية يدويا للعودة والدخول في الغلاف الجوي الأرضي، رغم إنه لم يتدرب على هكذا احتمالية مطلقا. انطلقت سويوز نحو الأرض، وستُنشر المظلات (الكابحة للسرعة) لاحقا لتنتهي المهمة الفاشلة بسقوط كوماروف في مركز الريف الروسي. لكن تعطل الطائرة مرة أخرى وفشلها بفتح مظلتها الكبيرة وتشابك مظلاتها الاحتياطية، أدى إلى اصطدام سويوز1 بالأرض قرب كارابوتاك لتودي بحياة كوماروف فورا. وألقى السكان المحليون دلاء التراب على المركبة في محاولة خائبة لإطفاء ألسنة
 اللهب.
الطريق إلى الفضاء مستمر
وبحسب إحدى الروايات المشكوك فيها على نطاق واسع، فقد التقطت مواقع إذاعية أميركية في تركيا صرخات كوماروف عن فشل السيطرة على المهمة، وسمعته يلعن «مركبة الموت» التي قادته إلى الموت، لكن تسجيلات ارسالاته النهائية لم تُثبت هذه الرواية. وقال فرينش: «كل التقارير الموثوقة عن آخر لحظات كوماروف تؤكد أنه كان طيارا محترفا، وأن الذي تسبب بمقتله هو عطل نظام المظلات، إذ إنه يعمل آليا ولم تكن للطيار سيطرة
 عليه».
وأرسل 47 رائد فضاء اميركيا في كل من هيوستن وتكساس برقية تعزية لنظرائهم الروس، وكان يوري غاغرين ورفاقه مفجوعين لموت زملائهم المفاجئ، وخصوصا موت أول رائد فضائي سوفييتي. وقال سلافا جيروفيتش، مؤلف كتاب (أصوات من برنامج الفضاء السوفيياتي): «كان العام 1967 نقطة تحول مهمة في توجهات الثقافة السوفييتية نحو رحلات الفضاء، من الاعجاب والفخر إلى الحزن والسخرية وعدم المبالاة في نهاية المطاف».
ووجهت مأساة سويوز1 ضربة للبرنامج الفضائي السوفييتي، ما أدى إلى إبطاء التسلسل الزمني لعمليات الإطلاق التجريبية، إلى جانب التأخيرات المصاحبة لتطوير صاروخ (N1 lunar)، ما أتاح لأميركا للفوز بالسباق إلى القمر عام 1969. وربما تكون أميركا قد فازت على أية حال، وقال فرينش: “من الممكن التكهن بأنه لو أتيح الوقت الكافي لإصلاح سويوز1 قبل إطلاقه، وكانت الرحلة ناجحة تماما، لكان بإمكان الاتحاد السوفييتي التحليق بالبشر حول القمر قبل أميركا”.
ونبهت حادثة تحطم سويوز1 العالم مرة أخرى الى مخاطر الرحلات إلى الفضاء. وكان كوماروف ورفاقه يعرفون ذلك جيدًا، وكانوا على استعداد لاتخاذها. ولخصّها غاغرين نفسه في تصريحه بعد وفاة صديقه: “رجال قتلوا، لكن سفنا جديدة غادرت مراسيها، ورحلات جديدة انطلقت إلى نطاق الإقلاع، وذهبت فرق جديدة إلى الغابة والصحراء، لا شيء سيوقفنا. الطريق إلى النجوم شاهق وخطير. لكننا لسنا
 خائفين”.