قرية أرامل الأفيون

بانوراما 2021/01/11
...

  ديفد زاكينو
  ترجمة وإعداد: أنيس الصفار                                        
على المنبسطات الجرداء المرتفعة غربي أفغانستان، وعلى امتداد الطريق الواقع الى الجنوب من مدينة هيرات، تقوم مجموعة من الاكواخ الطينية البسيطة متينة البناء يطلق عليها اسم “قالا إبيواها” وتعني “قرية الأرامل”.
معظم رجال هذه القرية اختفوا، وقتلوا وهم يحاولون تهريب الأفيون عبر الحدود المقفرة الى أراضي إيران المجاورة. هكذا بقيت النساء وحيدات ليتولين حماية أنفسهن وأبنائهن، وفقد بعضهم حياته أيضا اثناء حملهم المخدرات عبر الحدود من منطقة أدراسكان التابعة لمحافظة هيرات.
يقول عمدة المنطقة “محمد علي فقيريار” أن المنطقة تشكو الفاقة والفقر لدرجة ان الذين يبحثون عن عمل لا يجدون أمامهم إلا واحداً من خيارين، إما تهريب المخدرات او الانضمام الى طالبان. ومن يوافقون على تهريب الأفيون والهيروين والميثافيتامينات بإمكانهم ان يجنوا 300 دولار او أكثر في الرحلة الواحدة، وهو مبلغ يعد ثروة بالنسبة لهذه القربة الفقيرة. بيد أنهم يجازفون بالتعرض للقبض عليهم، أو محاكمتهم قضائياً امام محاكم إيران والحكم عليهم بالإعدام، أو يردون برصاص حرس الحدود.
منذ العام 2018 غدت أفغانستان أكبر منتج للأفيون في العالم، وأصبحت زهرة الخشخاش المحصول الأعلى وارداً للبلاد. وأرباحها المالية هي التي أمدّت طالبان بالأموال، وهي التي قوضت عبر السنين كل جهود إعادة الاعمار وبناء البنية الأمنية التي بذلتها الولايات المتحدة وحلفاؤها.
يبدو المسؤولون الأفغان عاجزين عن وقف هذه التجارة المربحة، بل ان بعضهم اغتنى من تواطئه بتسهيل عمليات التهريب. كانت ثمرة ذلك كله دورة متكاملة مستمرة تبدأ بزراعة الأفيون ثم معاملته فتهريبه عبر الحدود. جعل هذا الواقع أفغانستان البلد الأشد عرضة للعواقب والتبعات القاسية المفروضة على هذه التجارة المحرمة.
يقول فقيريار بأنه طلب دعم الحكومة للشروع ببرامج تساعد الاهالي على تربية الماشية وزراعة القمح والرز والبقول في تلك الأرض الجرداء ولكن مساعيه باءت بالفشل.
 
ظروف بائسة
تقتات الأرامل على ما يبتعنه من طعام بالدراهم القليلة التي يكسبنها من غزل الصوف او تبرعات الأقارب ومنظمات الإغاثة الدولية. بعض الأطفال يلتحقون بما يسمى “المدرسة”، وهي جلسات دروس دينية يديرها أحد الملالي في الجامع الصغير المجاور للقرية. أقرب مركز مأهول هو مدينة هيرات؛ مركز المحافظة وتقع على مبعدة 45 ميلاً الى الشمال.
خارج مسكنها المشيد من الطين المجفف تحدثت “نك بيبي”، وهي أرملة عمرها 50 عاماً، وإلى جانبها حفيدها المتعلق بملابسها، قالت: “لقد عشنا حياة طيبة زمناً طويلاً، وكان ابنائي الثلاثة يكسبون المال من نقل الأفيون، إلا أنهم قتلوا جميعاً.”
قبل عدة سنوات ألقي القبض على أكبر ابنائها “غلام رسول” وهو بعمر 20 عاماً ثم اعدم شنقاً في إيران بعد إدانته بتهريب الأفيون. بعده بثلاث سنوات أطلق حرس الحدود الايرانيون النار على ولديها الآخرين “عبد الغفور”، 15 عاماً، و”عبد ظريف”، 14 عاماً، عندما كانا يحاولان تهريب الأفيون من افغانستان، فلقيا مصرعهما ايضاً.
تضيف بيبي بأنها لم تحصل على جثث أولادها، وهي شكوى تشاركها فيها نساء القرية الأخريات. تقول: “لا أعلم إن كانوا قد دفنوا هناك أم بقيت جثثهم ملقاة في العراء.”
توفي “محمد صادق” زوج بيبي مؤخراً بسبب المرض تاركاً لها رعاية أرامل أولادها وأحفادها الثمانية، وما تكسبه من غزل الصوف يدوياً ثم انتاج سجادة من حياكة الخيوط لا يكفي لسد الرمق. 
تهب على القرية هذه الأيام رياح مثلجة تبتلع بصفيرها ثغاء الاغنام في الحظيرة المجاورة لأكواخ الأرامل التي تبدو وكأنها نبتت من تراب الأرض محاكية التلال المحيطة بلونها وشكلها. القرية كلها ليست فيها كهرباء ولا مياه إسالة، وما من مصدر للتدفئة سوى الحطب الذي تشتريه العائلة او تجمعه لحرقه. بعض الأرامل، مثل بيبي، يشعلن في الليل مصباحاً واحداً يستمد طاقته من الكهرباء التي تولدها خلال النهار ألواح شمسية صغيرة.
خلال الخريف الماضي بلغت قسوة الأحوال الجوية حداً جعل كثيرا من النساء يتركن القرية ويلجأن الى بيوت اقاربهن، أو مخيمات للنازحين تديرها منظمات الإغاثة. يقول “محمد زمان شكيب” مدير تطوير المنطقة إن القرية كانت تسكنها الى وقت قريب 80 أرملة مع أسرهن، أما اليوم فلا توجد فيها سوى 30 أرملة بعد ان دفع البرد والجوع معظمهن الى مغادرتها.
تقول احدى نساء القرية المتبقيات، واسمها فاطمة، ان زوجها “فاضل حق” كان يكافح لكسب لقمة عيشهم من جمع الحطب وبيعه حيث يستخدم في الطبخ والتدفئة. وعندما بلغ به اليأس مبلغه اضطر لقبول عرض بتهريب الأفيون لقاء 200 دولار للرحلة. وتضيف بأنه بقي على هذا المنوال ثلاث سنين، ولكنه أردي بالرصاص قبل خمس سنوات على يد حرس الحدود لتبقى وحدها ترعى ابناءهما الخمسة.
 
عقوبة الإعدام
يوضح المسؤولون الأفغان أن هيرات واحدة من ثلاث محافظات غربية توفر ممرات ثابتة لتهريب المخدرات، وإيران هي الوجهة الاساسية للأفيون الأفغاني. لكن فقيريار ينوه بأن قريته برزت كقطب رئيس لتهريب المخدرات حين بدأ رجل من سكانها ممارسة تهريب الأفيون قبل ثلاثة عقود. هذا الرجل نفسه يتزعم اليوم ميليشيا موالية للحكومة في هيرات.
يتفشى تهريب المخدرات في تلك المناطق لدرجة جعلت إيران تنشر دورياتها الآلية على طول حدودها مع منطقة أدراسكان. رغم هذا ينجح المهربون، الذين يطلق عليهم اسم “قجاق بار”، بنقل كميات من الافيون الى إيران تكفي للتعويض عن الشحنات التي يتم اعتراضها على امتداد الحدود المشتركة التي تمتد لمسافة 135 ميلاً يأتي معظمها من محافظتي هلمند وفرح.
يفيد تقرير لمنظمة العفو الدولية بأن إيران لغاية 2016 كانت تعدم مئات الاشخاص سنوياً معظمهم لتهم تتعلق بالمخدرات، لكن الوتيرة تراجعت منذ 2017 بسبب تعديل على قانون المخدرات رفع العتبة القانونية لعقوبة الإعدام.
أنفقت الولايات المتحدة نحو تسعة مليارات دولار بين عامي 2002 و2017 ضمن محاولات فاشلة لمكافحة المخدرات في أفغانستان، ورغم هذا ارتفع انتاج الأفيون من 3400 طن سنة 2002 الى تسعة آلاف طن في 2017.
قرية الأرامل، وغيرها من التجمعات السكانية ضمن محافظة هيرات، قريبة جدا من أصوات الحرب المستمرة. فقوات طالبان تهاجم المخافر الحكومية القريبة بصورة منتظمة، وتجوب دوريات الشرطة الطريق السريع قرب هيرات، يوميا، لإزالة القنابل التي يزرعها المتشددون خلال الليل. وأغلقت الحكومة، مؤخرا، مخفراً حدودياً تعرض للهجوم والتدمير، ليس من قبل طالبان وإنما على يد مهربي المخدرات المنضمين الى المتشددين لإزاحة العقبات المعترضة لطرق التهريب.
في قرية الأرامل تعمل النساء بصبر وجلد.. يغزلن الصوف إلى أن تتقرن أيديهن ويتغير لونها. ويكافحن لرعاية اطفالهن وفي قلوبهن الخوف من ان يتبع الابناء خطى آبائهم الذين ضاعوا على درب تهريب المخدرات. 
 
عن صحيفة نيويورك تايمز الاميركية