الجرجاني بين الشعر ودلائل الاعجاز

ثقافة 2019/01/29
...

د. حسين القاصد
يقول عبد القاهر الجرجاني: (إلّا أنّك لن ترى على ذلك، نوعا من العلم قد لقي من الضيم ما لقيه، ومُني من الحيف بما مُني به، ...؛ يقول: إنما هو خبر واستخبار وأمرٌ ونهي ولكل من ذلك لفظٌ قد وضِعَ له وجُعِلَ دليلا عليه؛ فكل من عرف أوضاع لغة من اللغات، عربية كانت أم فارسية، وعرف المغزى من كل لفظة، ثم ساعده اللسان على النطق بها وعلى تأدية أجراسها وحروفها، فهو بيّنٌ في تلك اللغة، كامل الأداة، بالغ من البيان المبلغ الذي لا مزيد عليه، منتهٍ إلى الغاية التي لا مذهب بعدها. يسمع الفصاحة والبلاغة والبراعة ولا يعرف لها معنى سوى الإطناب في القول، وأن يكون المتكلم في ذلك جهير الصوت، جاري اللسان، لا تعترضه لُكنة، ولاتقف به حُبسة،)..
إنّ الجرجاني إذ يمهّد لنفسه سبيلا لطرح مفاهيمه من خلال هذا النص المقتبس فهو يفتح لنا بابا لمناقشته بأداوته نفسها ومن وجهة نظرنا المعاصرة؛ فهو إذ يميل إلى عمليتين تبدوان متعارضتين - على حد تعبير نصر حامد أبو زيد - وهما الهدم والبناء أو النفي والإثبات، إذ يتم الإثبات بالتأويل ويتحقق النفي بالإنكار؛ حيث يعزز لدينا نزعة الهدم ونسف الموروث الذي لا يلائم ولا يتفق مع ما يبتغيه الشيخ في دلائله الإعجازية.
ومما لا شك فيه أننا لم نلمس ولم يمر من أمام أعين مخيلتنا أي معيار نقدي يخص الشعر دون غيره من الأجناس الأدبية، وليس فيما اقتبسناه ما يمت للنقد بصلة سوى أنه استعراض وتمهيد وتسويغ لتوظيف النص الأدبي خادما للنص القرآني، على الرغم من رؤيته إلى منزلة الشعر التي يرى من خلالها أن الذي يصد عن الشعر كالذي يصد عن سبيل الله وبمثابة من يمنع الناس من حجة الله؛ وحسبي أن هذه الرؤية على ما فيها من تفضيل لمكانة الشعر فهي رؤية دينية ووازعها ديني وغايتها أن يرتقي بالشعر لا من أجل الشعر نفسه بل لجعله أداة صالحة للتناول عند تعرضه للنص القرآني؛ يقول الجرجاني: (وذلك أنا إذا كنا نعلم أن الجهة التي منها قامت الحجة بالقرآن وظهرت، وبانت وبهرت، هي أن كان على حد من الفصاحة تقصر عنه قوى البشر، ومنتهيا إلى غاية لا يطمح إليها بالفكر، وكان محالا أن يعرف كونه كذلك إلا من عرف الشعر الذي هو ديوان العرب،). 
ونرى إحاطة الشعر بهذه الهالة القداسوية لا تلغي من كونه نصا ثانويا - عند الجرجاني - أو نصا أدبيا مسخرا لخدمة نص ديني، وحسبي أن إحاطته بهذه الهالة لا لأجل كونه شعرًا إنما لأجل الوجهة المسخر لخدمتها كونها نصا مقدسا وهو القرآن الكريم، كما أن مدح الشعر برمته لا يعد نقدا ولا يمت للنقد بصلة، وإلا لأصبح جميع الجمهور الذين يجلسون في قاعة اتحاد الأدباء ويحضرون جلسة شعرية - حبا بالشعر لا أكثر - لأصبحوا نقادا.