معارك المحلات السكنيَّة في كربلاء أيام زمان

ريبورتاج 2021/01/20
...

 كربلاء: علي لفتة
 

يستذكر الحاج مهدي مع صديقه القديم، وهما يشربان الشاي في احد مقاهي المدينة ايام زمان، ثم يضحكان ويغصان بسعال طويل، وهما يتذكران المعارك التي كانت تحصل بين ابناء المحلات السكنية في كربلاء المقدسة، وكيف كانت تجري، وتلك الطفولة التي قالا عنها رغم مرارتها إلا انها ايام جميلة لن تعود ولم تعد كما كانت، يطلقان الهدنة لانفاسهما وهما يتكئان على الأريكة، كأنهما يعيدان ذكريات اكثر من نصف قرن.
معارك المحلات السكنيَّة في كربلاء أيام زمان
 

ربما احياء كربلاء المقدسة لا تختلف عن احياء المدن الأخرى في الذاكرة، ففي كل مدينة ثمة رجال مشهورون في الشقاوات او العراك وحتى النكات بل وايضا المجانين فيها، ولكن الامر غير الطبيعي نوعا ما هو "العراك" الذي يأخذ أشكالا مختلفة في تلك الفترة التي يقول عنها الباحث والمؤرخ صاحب الشريفي "ان هذا الامر يمتد لقرن من الزمان ويحتاج الى ذاكرة لاسترجاع بعض المواقف والأسماء التي ما زالت في ذاكرة التراث الشعبي الكربلائي من ذلك الزمن الجميل".
هذا "العراك" الذي كان يدوم لعدة أيام ولا ينتهي بساعة او يوم، وبعضه كما يقول المؤرخ الشريفي له وقت محدد، إلا انه لم يفسد في الود قضية، فكان الشباب بعد انتهاء تلك الأيام المعدودة التي تحصل فيها المعارك يعودون إلى سيرتهم الاولى، وتعود المياه إلى مجاريها التي تصب في أنهار المحبة والألفة والتلاحم بين أبناء محلات المدينة، وكأن شيئاً لم يكن ويؤكد انها كانت (معارك) عفوية وطيبة بين أبناء المدينة أيام زمان.
 
الاستعداد قبل أيام
يقول المؤرخ صاحب الشريفي انه سمع من الأستاذ عبد الزهرة حسن المسعودي الذي كان واحدا من الذين عايشوا تلك الفترة قبل ستين عاماً "ان المعارك كانت تدور بين أفراد المحلات في كربلاء آنذاك مرة واحدة من كل عام وتحديداً في صبيحة يوم استشهاد الإمام زين العابدين (ع)، اذ كانت تقوم مجموعات من الشباب من كل محلة بتكوين الهيئات أو التجمعات الشبابية على الأقل قبل عشرة أيام من المناسبة لإعداد وتهيئة طبخ (الشلة) أي شلة الإمام زين العابدين عليه السلام، فكان الشباب الاكبر عمراً يكلفون الصبية الذين هم أقل منهم عمراً بحمل صينية صغيرة توضع فيها محتويات الشلة المكونة من الحمص والباقلاء واللوبياء والعدس الإيراني (الهرطمان) و(الرشته) المعمولة من عجينة الحنطة وكذلك الماش والسلك والكراث".
ويضيف "أما اللحوم فكانت توضع في الخلطة ليلة الطبخ وهي ليلة الوفاة، فكان هؤلاء الصبية يبقون في الشارع يجمعون التبرعات من المارة، اذ  يقول الصبي للشخص المار (عمي تتبرع لطبخ شلة زين العابدين) عندها يتبرع الشخص إما بمبلغ من المال أو يقول سوف أسهم بجلب بعض من مواد الشلة مثل الحمص أو الدهن أو البصل أو اللحم وغير ذلك".
ويستذكر المسعودي كيف كانت قدور الطبخ الكبيرة توضع على مساند حديد أو ما يعرف بـ (السباية) أو(المنصبة)، وأحياناً تكون المنصبة من الطابوق إن لم تتوفر السباية الحديد، وتوضع فوق القدر صينية كبيرة بقدر فوهته، وتوضع في الصينية كميات من المواد طيلة فترة جمع التبرعات إلى الليلة المحددة، اذ يبدأ الطبخ من قبل أحد الطباخين الماهرين، ويساعده بقية الشباب في غسل المواد وثرم اللحم والبصل وتجهيز الحطب تحت القدور وإشعال النار، وعادة يبدأ الطبخ بعد صلاة الفجر وبعد أن ينضج الطبخ، ثم يبدأ التوزيع، اذ  ينادي الصبية المارة (تفضلوا ريوگ شلة زين العابدين -ع-).
 
ما بعد "الشلة"
ويضيف المسعودي انه بعدها تبدأ المعارك مباشرة حال الانتهاء من توزيع (الشلة)، شلة زين العابدين، اذ كانت المحلات تعقد معاهدات بينها أو لوحدها قبل بدأ الاشتباك في المعارك، أما في حالة الاتفاق بين المحلات، ويشرح كيف يتم الاتفاق بقوله "مثلاً تتفق محلة باب بغداد والتي تعرف باسم (باب العلوة) مع محلة باب السلالمة وتسمى بـ(اتفاقية دفاع مشترك)، ومحلة باب الخان كانت تعقد اتفاقية مع محلة العباسية الشرقية ومحلة المخيم تتفق مع محلة باب الطاق وهكذا، اذ يبدأ الشباب الراغبون في المشاركة بالمعركة بالتجمع حول الزعيم ويسمى بـ(البطَل) او الشجاع وكانوا يهيئون العصي (التواثي والمگاوير والجرازات المعمولة من الخشب) إضافة الى الحجارة والحصى، ويمضي بقوله: "ان المعارك كانت تدور رحاها حتى الظهر، فإذا انتصرت إحدى المحلات على الأخرى فانها تدخل الى المحلة المغلوبة وتجول في شوارعها وهي تردد (إجينه محلتهم عين ابو جبيرتهم) وهذه العبارة تعني دخلنا ديارهم غصباً وكسرنا شوكتهم".
 
أسماء وشخصيات
ويتابع الحديث الباحث المؤرخ الشريفي "ان هناك شعارات كان يرددها شباب محلة باب بغداد مثلا هي (باب العلوة غدارة والسيف ماله جارة)،وأحياناً يكون التعادل في القوى، عندها يتدخل كبار رجالات المحلات لفض النزاع عن طريق الصلح، اذ يطلب الوجهاء وكبار المنطقة من الزعيم أن يمتثل للصلح، وعادة كان الزعيم يمتلك نوع الورع والشهامة واحترام الكبير ومعروف عنه لدى أهل المحلة بالشرف وحبه لهم، ويذكر الشريفي بعض من اسماء الزعماء، منهم المرحوم الحاج سعد عبد الحسين (سعودي) والحاج حسن فرحان والحاج صادق اسد عن محلة باب الخان والمرحوم بكر حسن عاشور والمرحوم سامي جدوع والمرحوم احمد تركة وحمزة زنگي عن محلة باب الطاق، والشيخ عباس علوان عن محلة باب السلالمة، والمرحوم السيد حسين الموسوي (حسين أعور) والمرحوم علي تقي عن محلة العباسية، والحاج فاروق مجبل النصراوي عن محلة المخيم وآخرون.
انتقام
ويشير الى ان المشارك في المعركة ﻻ يستطيع الدخول الى محلة الخصم، ﻻنه سيتعرض للضرب والانتقام وخاصة شباب المحلة المنتصرة، ولكن كما يقول الشريفي أنه وبعد مرور الأيام تزول العداوة وتعود المياه إلى مجاريها مؤكدا ان هذه (العركات) استمرت حتى أوائل الستينيات من القرن العشرين وبعدها انتهت بعد فرض الدولة سيطرتها على الأمن في المدينة".