صناعات يدوية قديمة من منتجات النخيل

ريبورتاج 2021/01/23
...

   عواطف مدلول    تصوير: نهاد العزاوي
 
بالرغم من الظلم الذي لحق بالنخلة العراقية على مر الازمان والظروف، لم تفقد قيمتها ومكانتها في نفوسنا، اذ ما زالت تمثل تلك الشجرة المباركة منبعاً للخيرات ورمزاً وعنواناً لبلدنا، لذا نفتخر بها ونقدسها، وغالباً ما تجذبنا كل التفاصيل والحاجيات التي تدخل بصناعتها ونهتم بها جداً، اذ تعد مصدراً اساسياً لبعض الصناعات والحرف التراثية الشعبية القديمة، وإن تراجع الاقبال عليها مؤخراً بعد التطور الهائل الذي طرأ على الحياة الحديثة بمختلف الجوانب.

أسر وأقارب
خلال جولة لـ "الصباح" في سوق (الملحاني) بمنطقة الكاظمية التي عرفت بتخصص اصحاب المحال فيها بصناعة بعض الاحتياجات المنزلية من الخوص والسعف، وقد بدت عليها آثار الاندثار، اذ اختفت معظم محالها وانصرف اصحابها الى ممارسة مهن اخرى. 
التقينا بحسن رشيد الذي يعمل في السوق منذ تسعينيات القرن الماضي فتحدث قائلا: "منذ الطفولة فتحت عيني على تلك المهنة، حينما وجدت نفسي ارثها من والدي وهكذا تواصلت بها لغاية الان، اذ احضر يوميا من السابعة صباحا وابقى الى الساعة الثالثة ظهرا، اعمل كراسي واقفاص دجاج وطيور وغيرها من الاغراض حسب الطلب، سواء كانت جملة او مفرداً، اذ عادة ما نشتري السعف من الراشدية، كونها معروفة بالسعف الخشن الذي نستفيد منه اكثر، فكل عملنا يعتمد على ما هو محلي".
مشيراً الى أن هناك "من حاول اقتحام تلك المهنة لكنه لم يفلح وتركها من دون رجعة، فهي تحتاج وقتا طويلا لكي يتعلم من يرغب بذلك، كما أن ما يستخدم بها من ادوات حادة جارحة، يتطلب مزيدا من الدقة والحذر، وهي مهنة قديمة لم يدخل بها اي غريب واغلب العاملين فيها اسر واقارب."
 
مواصفات خاصة
ويحدد رشيد اسعار "تخم" الاثاث بمبلغ (مئة وثلاثين ديناراً عراقياً) اذ يضم (اربعة كراس وقنفتين وطبلتين) واكثر الطلبات لأصحاب الكوفي شوب، واخرى من قبل بعض الناس التي تعشق التراثيات ويستهويها وضع "التخم" في حديقة البيت مثلا،  اذ ان عمل تلك المنتجات محصور ومحدود لدينا في الكاظمية فقط ضمن بغداد، وهناك مكان اخر في بعقوبة يشتغلونها كذلك، وتبقى النخلة معروفة بعطائها، اذ يستفاد من الجذع والخوص لعمل المكنسات والبسط  والسلال وغيرها، وحتى ما يتبقى من اعمالنا تلك كان يستخدم حطباً للتنور، اذ يأخذه البعض مجاناً منا.  
ويرى رشيد عدم اهتمام اي جهة بالسوق ولذا الاهمال الذي اصابها بدا واضحا للعيان، وذلك ما تسبب في اختفاء ملامحها التي كانت معروفة سابقا، مؤكداً انه كانت هناك في السابق جهات تهتم بتلك المهن التراثية وتدعم اصحابها على الاقل معنويا، مضيفا: "تلك (السعفة) لا تصبح شكلا مقبولا اذا لم يكن هناك فن وعقل وتفكير يستطيع أن يحولها الى تحفة فنية، مختتما كانت لنا مشاركة في مهرجان بابل بديكور جميل جدا، يضم كراسي موسيقية خاصة للعازفين بالرغم من وجود اشكال مختلفة من الكراسي الحديثة، لكن انتاجنا كان المفضل لانه يحمل بعض المواصفات الخاصة، سواء من ناحية جمالية او من ناحية الاكثر ملاءمة لجلسة العازف، وحصلنا على فوز الاولوية بمسابقة اقيمت من قبل وزارة الثقافة في ذلك المهرجان".
 
فصل الشتاء
في المحل المقابل يحكي لنا علي عماد:" نشتري (السعفة الواحدة) بـ 250 ديناراً ونشتغل منها سلة (مخضر) باحجام مختلفة، وسلة القيمر التي لم يعد استخدامها شائعا من قبل بائعات القيمر وحلت محلها الصينية الحديثة، ولكن اصحاب محال الخضار يستعملونها ليضعوا بها الفواكه والخضراوات، وكذلك ننجز اقفاصا صغيرة وكبيرة وبيوتا للطيور والدواجن، لكن هي الاخرى اخذت تندثر وصار التوجه نحو خانات الخشب والسيم، باستثناء قفص البلابل الذي مازال مرغوبا، وسعره رخيص بحدود 6 آلاف دينار، الا انه بالجنوب يباع بسعر اغلى يصل الى 15 الف دينار." 
ويذكر عماد بعض الصعوبات التي تعرقل عمله، اذ انها تكثر في فصل الشتاء، بالاخص حينما ينزل المطر ما يعيق مراحل اعداد السعفة، لانها لا تجف بسرعة وتصبح (خضرة) بسبب الرطوبة، ما يتطلب البقاء لساعات الليل المتأخرة بانتظار تماسكها ويحتاج ذلك وقتا منا، بعكس موسم الصيف الذي يسهل به العمل وليس هناك خوف من خسارة السعف، بالاضافة الى المعاناة من ايجارات المحال فهي ما زالت غالية ولا تتناسب مع انتاجنا، لذا فقد اغلقت اغلب المحال هنا وبمرور السنوات اتوقع اندثار تلك الحرف بالتدريج رغم الجهد الذي يقدم فيها. 
 
ايجابيات
اما الحاج حيدر ابو كرار الذي يعمل بتلك الحرفة منذ عام  1985  فيشير الى انه في الماضي كان هناك اقبال شديد على شراء تلك المنتجات، ولكن قلت الحاجة اليها بعد دخول المنتجات المستوردة مضيفا : "كنا كاسرة نعمل في عشرة  محال، اثنان ينتجان كراسي والباقي اقفاص بلابل والان بقينا اربعة محال، وفي السابق كنا نشتغل الأَسِرة البغدادية الى جانب "القنفات" للمنازل العراقية، اما الآن فقد توقف استعمالها واكتفينا بعمل "قنفات" للكوفيهات والمطاعم، لانها اقوى واكثر متانة من البلاستيك الذي ينكسر بسرعة، وبناء على التوصيات يتم التصميم على رغبة الزبون". 
ومن ايجابيات انحسار ومحدودية اعداد المحال التي تعمل تلك المنتجات، انه  صار هناك زخم علينا، اذ يضع الزبون عربونا مع عنوانه حتى لو كان قادما من المحافظات ونعمل نحن على ايصال البضاعة، مثلا لدينا الان طلبية للرمادي 100 كرسي لكوفي شوب سوف نجهزها ونبعثها له حسب المدة المتفق عليها، اذ هناك موعد محدد، وبعد عشرين يوما تقريبا يمكن اكمال البضاعة، لأننا نعمل باليوم اربعة كراس، لا سيما في الشتاء، اذ يتم العمل وفق مراحل، بداية نفصل السعف وبعد يوم نعرضه  للشمس وفي اليوم الثالث والرابع نشتغله، اما في الصيف فيعمل به ومن دون تلك التفاصيل.
 
اليدوي أفضل
 يقول ابو كرار "ان سعر "التخم" الاعتيادي 125 الف دينار، ويضم "اربعة كراس وقنفتين وطبلتين وميز طعام"، والتخم الملكي الرئاسي يتراوح سعره بين  250 و200 الف دينار عراقي" كونه يحمل تصاميم ونقشات ناعمة وضخامة بالحجم، كما ان للسعف ايضا انواع وافضلها الزهدي فهو درجة اولى، لذا نستعمله بصناعة التخم الرئاسي لأنه امتن واقوى ويبقى سعفه اخضر، ولهذا السبب احيانا يصل سعره الى  250 الف دينار، رغم اننا نشتري السعف كله بالعدد والسعر نفسيهما، لكن التخم الرئاسي يختلف لاننا نقدم فيه جهدا اضافيا ونحتاج يوما كاملا لكي نكمل "قنفة" واحدة فقط منه".
وعن تجربة الادوات الحديثة بالعمل يؤكد "جربنا الدريل والكوسرة كادوات مساعدة، لكن لم تنجح وبقينا على العمل اليدوي ونستخدم فيه بشكل دائم اداة السنبة التي تخصص بصناعتها رجل واحد في ديالى، يهيئها لنا بحسب القياسات، والنقشة التي نختارها".
و يسعى ابو كرار الى نقل الحرفة لاولاده موضحا "حاليا ابني يساعدني لاني افضل أن يتعلم المهنة ويتقنها، باعتبارها اضحت نادرة وعادت تنتشر وتنتعش من جديد ولها مردود مادي جيد، لذا ترك الدراسة وانصرف عنها لصالح عملنا هذا". 
 
" الحوش" البغدادي
في محل آخر وجدنا صلاح مهدي الذي توارث هو الاخر عن ابيه وجده تلك المهنة وبقي يعمل بها منذ 25 سنة ويرافقه حاليا ابنه، اذ يقول: "نشتغل كل شيء (كراسي، اقفاصا، ميز طعام، مكتبة تلفزيون، طبلات، برج طيور، ومختلف الديكورات) على الطلب لم يتوقف عملنا، لكن اثر فيه الاستيراد كثيرا،. 
ويضيف "بعد 2003 شهدت سوقنا اقبالا واسعا، لكن الزمن تغير بعد التطور الكبير الذي حصل بالحياة بشكل عام، حتى الناس الذين كانوا يأخذون اسرة النوم تخلوا عن بعض عاداتهم القديمة التقليدية هذه، بعد أن دخلت مولدات سحب الكهرباء وتحول النوم داخل البيوت لا على الاسطح في الصيف، فتلاشت صناعة الاسرة تماماً".
ويسترسل مهدي بالحديث قائلا: "جدي مواليد 1923 عمل بالمهنة وقد كانت غالية وعزيزة كما يصفها، اما الان لم تعد مهمة جدا، فالطلبات دوما عليها اشكال لان المشتري لا يقبل أن يدفع سعرا مناسبا حتى يشجعنا على الابداع والعطاء، ولا يقدر أن عملنا متعب، ولا يستطيع أي شخص أن ينجزه ويتحمل اعباءه خاصة في الصيف، ونحن تعلمناه ابا عن جد، وفيه نوع من التميز يحتاج  مهارة وفنا الى جانب الموهبة والذوق العالي، ولذا بدا الفرق بيننا وبين اهلنا فقد تطورنا عنهم كثيرا في بعض الامور، واحيانا اجد والدي وهو من مواليد  1954يضحك عندما يشاهد اعمالي الصعبة هذه، اذ كان يعمل حاجيات بدائية مثل اقفاص لشيشة "اللالة" وسلات الرمان و العنب و الكرسي الدائري القديم للمقاهي، ولكن هناك اعمالا اخرى مطلوبة جدا مثل عمارية الفيء (المظلة) التي كان الاقبال قويا عليها حينها، وحلت محلها الان "الجوادر" الشمسية المصنوعة من الجينكو والسندويش، وقد كانت  قبل تغطى بها الغرف او يستخدمها البقال لحماية الفواكه والخضار من الشمس  بل حتى بالحوش البغدادي تستعمل كقمرية تسقف بها الطرمة".