عدم المساواة والعنصرية دمرا الديمقراطية الأميركية

بانوراما 2021/01/26
...

ديفيد سميث
ترجمة: خالد قاسم
هز الهجوم على الكونغرس الأميركي الصورة المأخوذة عن واشنطن، لكن هل تعيش الديمقراطية فعلا أكثر أوقاتها خطورة منذ الحرب الأهلية؟ ففي فيلم «السيد سميث يذهب الى واشنطن» الذي ظهر في العام 1939، ينظر الممثل جيمس ستيوارت باحترام ورهبة الى مبنى الكابيتول ونصب الديمقراطية القريب منه.لكن منذ ذلك الحين ظهرت أسباب كثيرة تدفع للتساؤل، أو لازدراء مثالية ذلك الفيلم، الا أن أيا من تلك الاسباب لم يكن مثلا صارخا لتبرير تدنيس الكابيتول نفسه من قبل بعض مؤيدي الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الذين اشتبكوا مع الشرطة ونهبوا المكاتب ورفعوا أعلام الكونفدرالية واحتلوا مقعد نائب الرئيس على منصة مجلس الشيوخ.
من جهة الأحداث الأخيرة هي الإدراك الحتمي لحرب ترامب على واشنطن، اذ صوّر نفسه وكأنه البربري القادم، وأشعلت سنوات حكمه غضب الاستياء العرقي والازدراء ضد مؤسسات الدولة ونظريات المؤامرة، ومن جهة ثانية، أثارت الأحداث أزمة وجودية، فقد رأى البعض أن الديمقراطية لم تواجه مثل هذه الأزمة منذ الحرب الأهلية الأميركية وأن أسطورة الاستثنائية الأميركية صارت جوفاء بشكل غير مسبوق. 
لفت الفشل الأميركي بانتقال سلمي للسلطة أنظار الكثيرين، اذ تساءلت إحدى الصحف الكينية: “من هي جمهورية الموز الآن؟”. ويظهر هنا السؤال التالي كيف وصل الحال بأقوى دول العالم وأكبر اقتصادياتها بعد 245 سنة من الاستقلال الى ما وصل اليه اليوم؟ ويرجع تدهور الديمقراطية الأميركية لعدة أسباب منها عدم المساواة والعنصرية وفقدان الثقة بالمؤسسات والاستقطاب ووسائل الإعلام التقليدية ومواقع التواصل الاجتماعي، وكلها ظهرت قبل ترامب وسوف تبقى بعده.
 
ديمقراطية مشوهة
مذاق الديمقراطية كان حلواً ومراً باستمرار، اذ كسبت النساء حق التصويت قبل مئة سنة فقط ورغم المكاسب الصعبة المنال فلا يزال أفراد الأقليات يواجهون قمعا انتخابيا عنصريا، وعندما أدى جو بايدن اليمين الدستورية بوصفه الرئيس السادس والاربعين للولايات المتحدة الأميركية، فهو الرئيس الذكر الأبيض رقم 45 لهذه الدولة.
قبل نصف قرن من الآن تسببت فضيحة ووترغيت بتشويه سمعة السياسة وأصبح ريتشارد نيكسون أول رئيس يقدم استقالته، ومن بين الذين جاؤوا بعده بث رونالد ريغان فكرة عدم الثقة بالحكومة لغايات سياسية وقام بخفض الضرائب على الأثرياء عبر وسائل تفسر عدم المساواة الحالي.
أما عقد التسعينيات فقد شهد استعراض نيوت غينغريتش لعضلاته رئيسا لمجلس النواب والمحاولة الفاشلة لعزل الرئيس بيل كلنتون وحرب جورج بوش غير القانونية على العراق، وتسبب كل ذلك بتقويض الايمان بالطبقة السياسية، وأدت نهاية الحرب الباردة الى إزالة القوة الموحدة للعدو المشترك، وجاءت بعدها الأتمتة والعولمة وأزمة 2008 المالية لتدمر مجتمعات كثيرة وأججت نيران الاحساس بالظلم والغضب من النخب.
سنّت بعد ذلك المحكمة العليا قانون “المواطنون المتحدون” عام 2010 والذي رفع قيودا كثيرة عن الجماعات الخارجية الممولة للانتخابات، ويقول المنتقدون أنه وجّه النفوذ السياسي نحو المتبرعين الأغنياء والشركات والمصالح الخاصة، ووجد تقرير من مركز برينان المستقل بجامعة نيويورك أن مجموعة صغيرة جدا من الأميركيين يحملون “نفوذا أكبر من أي وقت مضى منذ فضيحة ووترغيت، بينما يبتعد الآخرون عن السياسة”، بينما كلفت انتخابات 2020 نحو 14 مليار دولار.لم يخل العقد الماضي أيضا من اللحظات الفاصلة، وشهد انتخاب باراك أوباما أول رئيس أسود للولايات المتحدة، وكان رد الفعل العنصري حاضرا عبر حركة حزب الشاي المحافظة ودخول ترامب عالم السياسة من خلال تساؤله اذا كان أوباما قد ولد في كينيا وبالتالي لا يحق له الترشح للرئاسة.
قبل فوزه بانتخابات 2016، قدّم ترامب في العام 2015 رسالة وطنية ومحلية وعدت ببناء جدار حدودي لمنع دخول المكسيكيين وجعل أميركا عظمى مجددا، ومن جهة أخرى، لم يواجه اعتداء الغوغاء على مبنى الكونغرس بالقسوة الأمنية نفسها التي واجهت تظاهرات حماية حقوق السود.
يقول لاري جاكوب مدير مركز دراسة السياسة والحكم بجامعة مينيسوتا: “لا يوجد شك بأن أميركا تمر بتغير أجيال تاريخي، فنسبة البيض من الناخبين تتراجع وبشكل جذري من 89 بالمئة عام 1980 الى نحو 68 بالمئة عام 2020، ودونالد ترامب استغل احباط المكانة المتراجعة لمجموعة من البيض قليلي التعليم، وأعتقد بصراحة أننا رأيناهم يتدفقون نحو الكونغرس”.
 
نفوذ النخب
واجهت أميركا عواصف سياسية من قبل لكن تصدعاتها بحاجة ملحة لإصلاح هيكلي، اذ فاز المرشحون الرئاسيون الجمهوريون بالتصويت الشعبي مرة واحدة فقط في آخر 32 سنة، لكن وصل بعضهم البيت الأبيض عبر المجمع
 الانتخابي. 
يضيف جاكوب: “بدءا من مطلع السبعينيات، غيرت الأحزاب السياسية طريقة اختيارها للمرشحين وقرروا انشاء الانتخابات التمهيدية انسجاما مع نشوة الديمقراطية، وكان من المفترض أن تعطي تلك الانتخابات نفوذا للمواطنين لكنها بدلا من ذلك أعطت النفوذ للمتطرفين”.
من جهة أخرى، صار الاستقطاب صارخا داخل الطبقات والعرق والجغرافية والتحصيل الدراسي. وأثارت وسائل اعلام يمينية مثل فوكس نيوز ونيوزماكس ومواقع التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وتويتر القبلية وساعدت بتوليد فقاعات الواقع البديل، لتملأ فراغا سببه تراجع الصحف
 المحلية.
ومن الواضح أن جماعات اليمين المتطرف في صعود، وأن اقتحام الكونغرس دلالة على بيئة ساخنة شهدت مخطط اختطاف حاكمة ميشيغان “غريتشن ويتمر” ولم تمنع 147 عضوا جمهوريا بالكونغرس من المضي قدما بتصويت لإلغاء نتائج الانتخابات.
مع ذلك، لا تزال هناك أسباب للاعتقاد أن الكأس نصف مملوءة، فالمجتمع المدني والإعلام يحتفظان بقوتهما وتبقى المحاكم متنفذة ومستقلة، كما أظهرت برفضها ادعاءات كاذبة بوجود تزوير انتخابي.