المضمر في روايات الكاتبة الأميركيَّة توني موريسون

منصة 2021/02/03
...

 رشــا الربيعـــي
 
يدعو فضول قرّاء الكاتبة الأميركية الشهيرة توني موريسون الحائزة جائزة نوبل في الأدب عام 1993 وجائزة بوليتزر عن روايتها “محبوبة” والوسام الرئاسي للحرية في الولايات المتحدة الأميركيَّة عام 2012 لمعرفة مدى تطابق - تقاطع رواياتها مع حياتها الشخصية. حيث يعتقد بعض قرائها أن شخوص رواياتها واقعيَّة وذلك عزوه لأمرين الأول أن مسرح شخوصها حقيقيٌ إلى حدٍ كبير كما شخصياتها: ملامحهم، أزياؤهم، طعامهم وشرابهم وبقية طقوسهم اليوميَّة.
أما الثاني فهو روايتها الأولى (العين أكثر زرقة) والتي صرحت في أحد حواراتها الذي أجريت معها والذي قامت بترجمته الكاتبة والمترجمة العراقية لطفية الدليمي في كتابها (فيزياء الرواية وموسيقى الفلسفة): “قد استعنت برسم بعض ملامح شخصيات وحوارات روايتي الأولى (العين الأكثر زرقة) بحوارات كنت لا زلت أحفظها وقتذاك عن والدتي”.
وعن ذات الرواية تعترف موريسون في كتاب (توني موريسون سيرة موجزة لكاتبة شجاعة) للكاتبة والصحفية بربارا كريمر بترجمة وتقديم لطفية الدليمي “بأنها جعلتها مثالاً متخيّلاً يشابه تفاصيل بلدتها الأم لورين في ولاية أوهايو”.
 
انتهاكٌ شخصيٌّ واضحٌ
يميل أكثر الكتّاب في رواياتهم الأولى للرجوع لحيواتهم الشخصيَّة كخلفيَّة لموضوعات كتبهم لتصبح الرواية حينها أشبه بالرواية السيرية, ولكن بعد خوض تلك التجربة يغادر الكتّاب، لا سيما المبدعين منهم تلك المنطقة “الحياة الشخصية” معتبرينها ملجأ الإنسان الأول الذي يؤسس ذاكرته الخاصة والمحميَّة ولكن يجب ألّا تؤرّخ ورقيا أو صورياً، ولو حدث وأرّخت روائياً فذلك انتهاكٌ شخصيٌّ واضحٌ لحياة المرء التي يجب أنْ تبقى بعيداً عن أعين الجميع قرّاءً أو متابعين. ولأنَّ الخيال يعدُّ إحدى أدوات الروائي فيتوجب عليه حينها أنْ يخلق شخصياته غير معتمدٍ على شخوص حقيقيين، ليؤسس بذلك بيئة أشبه بالواقعية المتخيلة شخوصها واقعيون ولكن غير حقيقيين. 
علقت موريسون عن آلية خلق شخصياتها الروائية في كتاب “متعة المتخيل” ترجمة وتقديم الدكتور نايف الياسين قائلة: “لا أستعمل أحداً أعرفه أبداً لبناء شخصية. في (أشد العيون زرقة) أعتقد أني استعملت إيماءات وبعض الحوار مما أذكره عن أمي في أماكن معينة، وبعض الجغرافيا. لم أفعل ذلك بعدها، أنا حذرة جداً في هذا المجال، لا أؤسس شخصياتي على أحد. لا أفعل ما يفعله كثير من الكتّاب. أشعر بأني في أفضل حالاتي ذكاء وحرية وإثارة عندما تكون كل شخصياتي مخترعة. ذلك جزء من الإثارة”.
 
جرأة اتخاذ القرار
يعدُّ أصحاب البشرة السوداء عموماً والمرأة السوداء على وجه الخصوص في نظر معظم المجتمعات كائنات هشة ضعيفة، يمكن هزمها وتهشيمها بكل سهولة، ولأنَّ الشخصيات النسويَّة في روايات توني موريسون تتسم بقوة الشخصية وجرأة اتخاذ القرار وإمكانية استقلالية العيش لذلك يصفها بعض النقّاد والقرّاء بأنها شخصيات صلبة، خارقة للغاية ولكنها في حقيقة الحال ما هي سوى إنسان يمتلك من القوة كما الضعف ومن الخطأ كما الصواب، علقت موريسون على ذلك: “غير صحيح، لكني أسمع ذلك كثيراً، أعتقد أنَّ ما نتوقعه من النساء ضئيل جداً. إذا وقفت النساء بشموخ لمدة ثلاثين يوماً سيصرخ الجميع: ياه، يا للشجاعة!
في الواقع، لقد كتب عن سيث (والدة بطلة رواية محبوبة)، وقال إنها امرأة قوية عملاقة تتجاوز حتى كونها بشراً، لكنْ في نهاية الكتاب فإنها بالكاد تتمكن من إدارة رأسها. تصبح وكأنها مخدرة تماماً، لا تستطيع إطعام نفسها. هل هذه صلابة؟”.
 
ظاهرة العنف
يكتب بعض النقّاد حول تفشي ظاهرة العنف في روايات توني موريسون رواية محبوبة أنموذجاً، الرواية التي تحولت إلى فيلم سينمائي في العام 1998 من إخراج جوناثان ديم وإنتاج وبطولة أوبرا وينفري، وبثت عام 2016 كمسلسل إذاعي من إخراج باتريشيا كامبر، منعت هذه الرواية من التدريس في المدارس الأميركيَّة، إذ عدتْ من الروايات المحرضة على العنف والمثيرة له.
رغم أنَّ العنف يتعارض تماماً مع موقف الكاتبة الشخصي ولكنها تبدأ روايتها محبوبة بحادثة قتل الأم سيث لابنتها محبوبة البالغة من العمر عامين فقط، لم تشأ توني موريسون الكتابة عن العنف بتجلياته الواضحة أو حتى التعبير عنه، بل ما أرادته من ذلك هو خلق وعاء جديد “لغة” تستوعب معاناة السود الحقيقيَّة لعشرات السنين، لغة تمنح السود حرية التعبير عمّا قاسوه لا لأجل إثارة مشاعر الحقد والانتقام، ولا لأجل استجداء مشاعر الحزن والتعاطف معهم، ولا لغاية إفشاء مظاهر العنف كما يزعم العديد بل لغرض الكشف عمّا يكمن وراء السرد من طبقية وعنصرية متغلغة داخل النفس البشرية بشكلٍ عام والذات الأميركيَّة بشكل خاص وتسليط الضوء عليها لغرض معالجتها لا تمييزها كما وتجنّب تكرار حدوث تلك المأساة في المستقبل. ولأن الرواية تعدُّ تاريخ المهمشين أولئك المنسيين من يصنعون التاريخ لكن لا تحق لهم كتابته، ولأنَّ موريسون اهتمت بتدوين شهاداتهم، شهادات أبناء عرقها الناجين من الرق والعبوديَّة، الذين عانوا ويلات خدمة البيض لا لذنب اقترفوه سوى لون بشرتهم، فكيف يمكن لكاتب أنْ يوثق العنف من دون دلائل تشي به؟
كمثالٍ لذلك في رواية (العين الأكثر زرقة) تتحدث موريسون عن الطفلة بيكولا التي تحلم أنْ تكون لها عيون زرقاء لينتهي بها المطاف مصابة بالعمى والجنون، حيث تقع الطفلة ضحية للثقافة الأميركيَّة السائدة حول معايير الجمال التي تحكم المعايير الإنسانية في المجتمع الأميركي آنذاك، فكيف للكاتبة أنْ تكتب عن تركة وآثار العنف الثقيلة في نفوس السود من دون تناول العنف المفرط الذي تعرضوا له؟
كما يعدُّ النقّاد أنَّ مشهد قتل الأم سيث لابنتها محبوبة كشفاً للحبكة في مرحلة مبكرة من الرواية، تعلّق موريسون حول هذه الإشكالية في حوار أجرته معها أليسا شابل في كتاب (متعة المتخيل): “بدا لي أنَّ من المهم أنْ يكون الفعل في (محبوبة) قتل الأم لابنتها معروفاً لكنْ مؤجل وغير مرئي. أردت أنْ أعطي القارئ كل المعلومات والعواقب المترتبة على الفعل، متجنبة في الوقت عينه الانشغال أو إشغال القارئ بالعنف نفسه. أذكر أني كتبت الجملة التي تشير إلى قطع سيث لرقبة ابنتها في مرحلة متأخرة جداً من الرواية، حيث إني كتبت الجملة بشكلٍ صحيح تماماً، أو هكذا كنت أعتقد... فكّرت بأنَّ الفعل نفسه يجب أنْ يدفن ويروى بطريقة غير ملفتة، لأني لو جعلت اللغة تتنافس مع العنف لأصبحت بذيئة”.
 
سرد المشاهد الجنسية
لمرات عدة حذفت كتب كاتبة جاز ونشيد سليمان من المناهج الدراسية بسبب المشاهد الجنسية كما منعت روايتها فردوس في سجون تكساس خشية أنْ تتسبب في أعمال شغب. تؤكد توني موريسون رغبتها في عدم سرد المشاهد الجنسية في رواياتها بل تجد أنَّ العواطف الحميمية أكثر تأثيراً من المشهد الجنسي بذاته، ولهذا تأخذ على خيال الكتّاب الذين يكشفون العلاقة الجنسية بكل تفاصيلها بعيداً عن توظيف ما تخلّفه تلك المشاهد من أبعاد داخل نفوس أبطال الرواية، وتأكيداً لهذا نجد في رواية محبوبة عندما تلتقي للمرة الأولى سيث وبول فإنهما يزيحان الجنس من الطريق، ولا يستمتعان بذلك على أية حال، إذ يفعلان ذلك بسرعة وارتباك، ثم أنهما يضطجعان هناك في محاولة التظاهر أنهما ليسا في ذلك السرير وأنهما لم يلتقيا، ثم يبدآن بالتفكير بأفكارٍ أخرى، ثم تبدأ أفكارهما بالاندماج حيث لا نستطع أنْ نميز أفكار سيث من أفكار بول. ذلك الاندماج أكثر حسية بالنسبة للقارئ من محاولة وصف تقاطيع الجسد.