الرئاسة الأميركيَّة.. التجاذبات بين الصلاحيات الدستوريَّة وشخصيَّة الرئيس
منصة
2021/02/05
+A
-A
جواد علي كسار
ليس من المبالغة ما قيل، بأن الرئيس الأميركي يتمتع بسلطات أكبر مما تمتع به الإمبراطور نابليون بونابرت أو قياصرة روسيا، أو ما تحدث به كاتب أميركي عندما أطلق مصطلح «الرئاسة الإمبرياليَّة» وصفاً لمنصب الرئيس في أميركا؛ ذلك المنصب الذي يقال عنه من دون مبالغة، إنه أخطر منصب على وجه الأرض (دور مؤسسة الرئاسة، ص 367).
الرمزية والأسطرة!
هذه الوصوفات وإنْ كانت لا تنطبق بالتساوي على الرؤساء الأميركان، بدءاً من جورج واشنطن الذي اختير أوّل رئيس لأميركا في نيسان 1789م، إلى لحظة جو بايدن الذي أدّى القسم في 20 كانون الثاني الفائت، بصفته الرئيس السادس والأربعين للولايات المتحدة، إلا أنها تنطبق تماماً على مؤسّسة الرئاسة، بل الحقيقة أنها لا تعكس سوى جزء يسير، من الموقع الذي تحتله هذه المؤسّسة في وعي الأميركيين، ووجدانهم ومخيالهم، وفي ثقافتهم الجماعية ورأسمالهم الرمزي وتأريخهم الوطني.
على سبيل المثال لا يزال الأميركيون ينظرون عبر الأجيال إلى جورج واشنطن وإبراهام لينكولن، على أنهما فوق البشر، وأنهما بمنزلة المسيح المخلص بالنسبة إلى أميركا، وقد تجسّدت عبادة الشخصية في جورج واشنطن بأبلغ صورها، عندما وصفوه بأنه نبي أميركا المنقذ، وتحدّثوا عن لينكولن بأنه شبه إله، وأعادوا ترسيم حياته على حياة السيد المسيح؛ فطفولته هي انعكاس لعذابات المسيح، ومعاناة أمّه هي معاناة السيدة مريم، واغتياله هو بمنزلة مقتل السيد المسيح، ليتمّ تحويله إلى «إله
أميركي».
لذلك ما ثمّة مبالغة في ما ذهب إليه كاتب أميركي، من القول: «إن موقفنا الشعبي تجاه أبطال تاريخنا يُماثل الموقف الديني.
فنحن نؤكد كمالاً نقياً في الأشخاص الذين نعبدهم، من أمثال واشنطن ولينكولن».
وبذلك ليس غريباً أنْ يغدو تاريخ أميركا عند كاتب آخر، هو: «تاريخ بضع شخصيات قياديَّة بارزة»، وأنْ يتحوّل كلّ ما يرتبط بتلك الشخصيات من أماكن وذكريات ومواقف وأشياء، إلى شبكة من المقدّسات، أو بتعبير المؤرّخ ديكسن ويكستر: «تقوم التذكارات حولهم مقام الأماكن المقدّسة في العصور الوسطى، فالأسرّة التي نام فيها أبطالنا، والثياب التي لبسوها، والبيوت التي سكنوا فيها، تجذب إليها مئات الآلاف من الحجّاج كلّ عام» (مؤسّسة الرئاسة، ص 61).
مثال أوباما
هذه الحركة التي تدور في أميركا حول مؤسّسة الرئاسة وتحويلها مع الرؤساء إلى «طوطم» مقدّس، هي ما يفسّر لنا الكثير من تقاليد السياسة وأعرافها الآن.
فقد لاحظنا جميعاً أنَّ الرئيس الأسبق باراك حسين أوباما، عندما أراد أنْ يؤدّي القسم رئيساً للولايات المتحدة في 20 كانون كانون الثاني 2009م، اختار لذلك نسخة الكتاب المقدّس نفسه، الذي أقسم عليه إبراهام لينكولن الرئيس السادس عشر (1861 - 1865م) وموحّد أميركا، ليعطي للأميركيين بل والعالم، انطباعاً تتداعى من خلاله شخصية لينكولن وما قام به في التاريخ الأميركي، والأدوار التي نهض بها، وفي الطليعة توحيد الولايات المتحدة من مخاضات الحرب الأهلية، وتحرير العبيد، وتوزيع الأراضي ورفع شعار: «الاتحادُ باقٍ على مدى الدهر».
ساعد أوباما على هذه الخطوة الرمزية المليئة بالدلالات من التاريخ الأميركي، بعض عناصر الشبه، فكلاهما وصل إلى الرئاسة وسط أزمة وطنية عامة، والاثنان من ولاية إلينوى، وأوباما هو أول رئيس أسود يتبوأ قمة النظام السياسي، وقد استطاع أنْ يلعب بالفعل دوراً مؤثراً في إعادة بناء صورة أميركا في العالم، على أنقاض السنوات الثماني لسلفه بوش الابن التي اقترنت بالحروب، حتى بلغت شعبيته داخل أميركا وفي العالم مديات قصوى، وذلك كنوعٍ من الاندكاك الشعوري والاندماج النفسي بهذا الرمز.
سلطات الرئيس
تُحدّد الفقرة الثانية والثالثة من المادّة الثانية في الدستور الأميركي سلطات الرئيس وصلاحياته؛ هذه الفقرات التي نصّت على أنه القائد الأعلى للقوّات المسلحة، وله ترجع مسؤولية تعيين قضاة المحكمة العليا، وعليه تقع مسؤولية تشكيل الإدارة أو الحكومة الاتحادية، وله الدور الأبرز في السياسة الخارجيَّة وإبرام المعاهدات الدولية، كما أعطاه الدستور الحقّ في منح العفو وإرجاء تنفيذ الأحكام، وهو يتمتّع بسلطة نقض التشريعات التي يقرّها الكونغرس.
هذه الخريطة من الصلاحيات وإن كانت مكثّفة وواسعة، قلما تجتمع في النظم الدستوريَّة بيد رجل واحد، لكنها مضلّلة، لأنها ببساطة شديدة لا تعكس كامل صلاحيات الرئيس.
فالرئيس في أميركا يمارس عملياً دوراً يتخطى هذه الصلاحيات المقرّرة دستورياً، تشهد على ذلك التجربة المباشرة للرؤساء الخمسة والأربعين الذين تسنّموا الموقع على مدار أكثر من (230) سنة، بدءاً من لحظة الرئيس الأول جورج واشنطن (1789 - 1797م) وانتهاءً بمغادرة دونالد ترامب في 20 كانون الثاني من العام الحالي.
سأعطي مثالاً بسيطاً يعكس لنا سعة صلاحيات الرئيس، قد يكون من الصعب أنْ يصدّقها القارئ خارج نطاق الولايات المتحدة، لكنها تعكس الواقع العملي اليومي للرئاسة.
فصلاحية الرئيس تبدأ من مسؤوليته عن إعلان الحرب وتحريك الجيوش بصفته القائد الأعلى للقوّات المسلحة، ولا تقف عند حدود تسمية المتنزهات العامة الكبيرة، ورمي أوّل كرة بيسبول في موسم لعبة البيسبول الشهيرة في الولايات المتحدة!
الرئيس الورع والمنقذ
صورة الرئيس التي رسمها الوعي الوطني الأميركي المتمازج مع المخيال الشعبي للأمة الأميركيَّة؛ أنه شخص مثاليّ مليء بالتقوى والورع، وهو ينوب عن الإله ويُسخّر كلّ شيء لخدمة الأميركيين بحسب شلينجر، كما هي صورة جورج واشنطن وإبراهام لينكولن وأضرابهما.
يُتمّم هذه الصورة ويستكملها رسالة الانقاذ التي ينهض بها الرئيس، في تحرير البلاد من أزمات وطنيَّة سياسيَّة واقتصادية كبرى، والأهمّ من ذلك إنقاذها من الحروب وإنهاؤها ووضع خاتمة لها، كما حصل مع الرؤساء ودرو ويلسون وروزفيلت وكيندي وجاكسون، وفي المدّة الأخيرة مع أوباما عقب حروب بوش الابن، وترامب الذي وعد ألا تدخل أميركا حرباً جديدة على عهده، وقد وفى.
ترتبط بقوّة الشكيمة ما يتحلى به الرئيس من جاذبيَّة شخصية، وما يحظى به من عفويَّة وبساطة وانفتاح، وهي معايير للجاذبية ترتبط بالبيئة الأميركيَّة نفسها وما تفرزه من مقاييس.
ومع أنَّ أنماط السلوك الرئاسي تعكس شخصية الرئيس، في نشأته وبيئته وخلفيته الثقافية والعرقية والاجتماعية، إلا أنَّ الخبرة التي بين أيدينا على الأقلّ من لحظة الرئيس جون كيندي (1961 - 1963م) حتى اليوم، تدلّل على أنَّ عناصر الجاذبيَّة وسحر الشخصيَّة، تميل أكثر إلى الرؤساء الديموقراطيين منهم إلى الجمهوريين.
يعزّز هذه القناعة خلال السنوات الستين الماضية، الألق والإيحاء والجاذبية التي تواشجت مع رؤساء ديموقراطيين، تركوا أثراً بليغاً في الوعي الجماعي الأميركي، مثلما كان الأمر مع الرئيس المقتول كيندي، وخلفه جونسون، ومن بعد ذلك القس الوسيم جيمي كارتر، ولكن يبقى ملك الجاذبية في حياة الأميركيين خلال العقود الأخيرة، هو الرئيس بل كلينتون (1993 - 2001م) ومن بعده الرئيس أوباما (2009 - 2017م) الذي حقّق أرقاماً قياسيَّة في استبيانات الرأي العام، بلغت في شعبيته داخل أميركا 73 %، وقرابة 80 % خارج أميركا، من دون أنْ يعني ذلك أنَّ الجاذبية ترتبط بالديموقراطيين وحدهم، فقد كان للرئيس الجمهوري رونالد ريغان (1981 - 1989م) شعبية كبيرة، ناشئة عن الجاذبية الشخصية وتلقائيته وخلفيته كممثل.
الرئيس الضعيف
لم يكن نيكسون رئيساً ضعيفاً، لكنَّ نسق الرؤية الأميركيَّة الشعبية، صنّفته هكذا على إثر قضية وترغيت واتهامه بالغش والخيانة والخداع، وقد استمرّ ينظر إلى خلفه جيرالد فورد بالمنظار نفسه، حتى أنَّ الصحفيين الأميركيين لم يتحرّجوا عن وصف فورد بالرئيس الغبي، وقد حاك الناس حوله أقاصيص خبيثة، من قبيل قولهم: «إنه الرجل الوحيد الذي لا يستطيع عمل شيئين معاً، كأنْ يعلك علكة ويمشي في الوقت نفسه»! (الداء الأميركي، ص 118).
لماذا حاصر المخيال الأميركي الرئيس فورد بهذه التهمة، ونسج له هذه الصورة الرمزيَّة السلبيَّة بل المشينة؟
الجواب المباشر بحسب الرواية الأميركيَّة، أنه تعثّر مرّة عند نزوله درج سلّم الطائرة، فأوّل عدد غير قليل من الأميركيين هذه الزلّة الإنسانية العادية على أنها ضعف، وصرفها إلى عدم جدارته بالرئاسة.
لكن السبب الأعمق برأيي يعود إلى المخيال الشعبي الأميركي، وأنه جرّ نظرته السلبية إلى نيكسون الغشاش والمخادع الخائن، وعمّمها على سلفه فورد، ومن ثمّ لم يكن من ذنب حقيقي لفورد إلا أنه جاء للرئاسة بعد نيكسون، بحكم كونه نائباً للرئيس.
بالمنظار نفسه اعتاد الأميركان على وصف الرئيس الديموقراطي جيمي كارتر (1977 - 1981م) والجمهوري جورج بوش الأب (1989 - 1993م) بالسلبية والضعف.
ومع أنَّ لهذه الأوصاف ارتكازاً نفسياً في وجدان الأميركيين وبحثهم عن الرئيس البطل، أو الرئاسة الإمبراطورية بحسب عالم الاجتماع الفرنسي ميشيل كروزييه (الداء الأميركي، ص 111) إلا أنَّ تسويقها أو لنقل تبريرها، يتمّ عبر معايير قد يُقال في وصفها أنها موضوعية.
من هذه المعايير في تصنيف الرئيس والحكم عليه بالقوّة أو الضعف، هو إدارته لحكومته وما ينشأ عن ذلك من القدرة على اتخاذ القرار السليم.
فقد تحدّثوا عن نزعة تميل إلى الاستبداد والفرديَّة، في تعامل الرئيس جونسون مع مستشاريه حتى أنه كان يصطحبهم معه إلى المرحاض مقابل احترام ظاهري للتكنوقراط (الداء الأميركي، ص 75).
أما سلفه دوايت ايزنهاور (1953 - 1961م) فقد همّش دور الوزراء في القرار، ونزل بهم إلى حدّ تقديم المشورة وحسب، بعكس ذلك ما قام به دونالد ريغان من تفويض الكثير من صلاحياته إلى وزرائه.
بشأن كارتر لم تكن علاقته مستقرّة مع وزرائه لا سيّما مع طغيان دور زبغنيو برجنسكي على عقله، بينما كان كلينتون قد عامل وزراءه كشركاءٍ في اتخاذ القرار، وهو المنهج الذي سار عليه أوباما، مع احتفاظه بالمرجعيَّة لنفسه؛ حيث تحول كلينتون وأوباما إلى أمثلة متقدّمة في قدرة الرؤساء الأميركان، على إدارة الأزمات واتخاذ القرارات، من خلال إعطاء الوزراء حرية القرار ومناقشة الأمور بشكلٍ جماعي.
في مثال أخير ينتمي إلى الإدارات الجمهوريَّة، لوحظ أنَّ بوش الأب لم يكن يثق بمن يعمل معه في البيت الأبيض، لذلك كان ميالاً للعزلة والتكتّم والعمل الفردي في إصدار القرار.
أما جورج بوش الابن فقد كان يتعامل بتفرّد مع سلطاته في اتخاذ القرار، ويستغني عن خدمات من يُجاهر برأي معارض لرأيه، مع إبدائه لاحترامٍ كبيرٍ لرمزين في إدارته، هما نائب الرئيس دكجيني، ومستشارة الأمن القومي ثمّ وزيرة الخارجية كوندليزا رايس.
ومع ترامب الذي غادرنا قبل أيام، فاعتقد أنَّ إدارته سجّلت أرقاماً قياسيَّة في تغيير الوزراء والمستشارين وكبار الموظفين، ما يدلّ بمجموعه على نسقٍ من الفردية العالية، وشيء غير قليل من الذاتية والتعالي.